الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

504 - عبد الملك بن مروان :

مرض فجعل في مرضه يذم الدنيا ويقول: إن طويلك لقصير ، وإن كثيرك لقليل ، وأنا منك لفي غرور .

ونظر إلى غسال يلوي ثوبا بيده ، فقال: لوددت أني كنت غسالا آكل من كسب يدي ولم آل شيئا من هذا الأمر ، فبلغ ذلك أبا حازم ، فقال: الحمد لله الذي جعلهم إذا احتضروا يتمنون ما نحن فيه ، وإذا احتضرنا لم نتمن ما هم فيه .

ودخل عليه الوليد فتمثل عبد الملك يقول:


كم عائد رجلا وليس يعوده إلا ليعلم هل يراه يموت

وتمثل أيضا يقول:


ومستخبر عنا يريد بنا الردى     ومستخبرات والعيون سواجم

فجلس الوليد يبكي ، فقال: ما هذا؟ أتحن حنين الحمامة والأمة إذا مت فشمر واتزر ، والبس جلد النمر ، وضع سيفك على عاتقك ، فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه ، ومن سكت مات بدائه . [ ص: 274 ]

وفي رواية أن الأطباء منعوه أن يشرب الماء ريا ، فكان يشرب قليلا قليلا ، فاشتد عطشه فشرب ريا فمات .

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، وابن ناصر ، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار الصيرفي ، قال: أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن محمد النصيبي ، قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد ، قال: حدثنا أبو بكر ابن الأنباري ، قال:

حدثني أبي ، قال: حدثنا أحمد بن عبيد ، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المدائني ، قال:

لما اشتد مرض عبد الملك بن مروان ، أيقن بفراق الدنيا والإفضاء إلى الآخرة ، دعى أبا علاقة مولاه فقال له: يا أبا علاقة ، والله لوددت أني كنت منذ يوم ولدت إلى يومي هذا حمالا . ولم يكن لي من البنات إلا واحدة ، يقال لها فاطمة ، وكان قد أعطاها قرطي مارية والدرة اليتيمة - فقال: اللهم إني لم أخلف شيئا أهم إلي منها فاحفظها . فتزوجها عمر بن عبد العزيز . وكان عند عبد الملك بنوه: الوليد ، وسليمان ، ومسلمة ، وهشام ويزيد ، فقال لآذنه: اخرج فانظر من الباب ثم أعلمني ، فخرج فنظر ثم أتاه ، فقال: بالباب خالد بن يزيد بن معاوية ، وخالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العاص ، فقال: ائتني بسيفي ، فأتاه به ، فقال: جرده ، فجرده ، ثم قال: ضعه تحت ثني فراشي ، ففعل ثم قال: ائذن لهما ، فلما دخلا قال: أتعرفاني؟ قالا: سبحان الله يا أمير المؤمنين ، أنت أمير المؤمنين وسيد الناس وولي أمرهم ، قال: لا إلا باسمي واسم أبي ، قالا: أنت عبد الملك بن مروان ، قال: فمن هذا ، وأشار إلى الوليد ، وكان خلفه قد تساند إليه ، قالا: هذا سيد الناس بعدك ، وولي أمرهم ، قال: لا إلا باسمه واسم أبيه ، قالا: هذا الوليد بن عبد الملك ، قال: أتدريان لماذا أذنت لكما؟ قالا: لترينا أثر نعمة الله عندك وما قد صرت إليه من التماثل والإفاقة ، قال: لا ولكنه قد نزل بي من الأمر ما قد تريان ، فهل في أنفسكما من بيعة الوليد شيء؟ قالا: لا ما نرى أن أحدا هو أحق بها منه بعدك ، قال: أولى لكما ، أما والله لو غير ذلك قلتما لضربت الذي فيه عيناكما - ثم رفع فراشه فإذا بالسيف مجرد قد هيأه لهما ، فخرجا عند ذلك .

ثم أقبل على بنيه فقال: يا بني أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلة ، وأحصن كهف ، وأخرز جنة . وأن يعطف الكبير منكم على الصغير ، وأن يعرف الصغير منكم حق [ ص: 275 ] الكبير . وإياكم والفرقة والاختلاف ، فإن بها هلك الأولون ، وذل به ذو العز ، انظروا مسلمة وأصدروا عن رأيه ، فإنه مجنكم الذي به تستجنون ، ونابكم الذي عنه تفترون ، وكونوا بني آدم بررة ، ولا تدنوا العقارب منكم ، وكونوا في الحرب أحرارا ، وللمعروف منارا ، فإن الحرب لن تدني منية قبل وقتها ، وإن المعروف يبقى آخره وذكره ، واحلولوا في مرارة ولينوا في شدة ، وضعوا الصنائع عند ذوي الأحساب والأخطار فإنهم أصون لأحسابهم ، وأشكر لما يؤتى إليهم ، وإياكم أن تخالفوا وصيتي ، وكونوا كما قال ابن عبد الأعلى الشيباني:


إني أؤمل يا بني حرب الذرى     أن تخلدوا وجدودكم لم تخلد
فاتقوا الضغائن والتخاذل عنكم     عند المغيب وفي الحضور الشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم     إن مد في عمري ، وإن لم يمدد
وتكون أيديكم معا في عونكم     ليس اليدان لذي التعاون كاليد
إن القداح إذا اجتمعن فرامها     بالكسر ذو حنق وبطش أيد
عزت فلم تكسر إن هي بددت     فالكسر والتوهين للمتبدد

ثم أقبل على الوليد فقال: يا وليد ، اتق الله فيما أخلفك فيه ، واحفظ وصيتي ، وخذ بأمري ، وانظر أخي معاوية ، فإنه ابن أمي ، وقد ابتلي في عقله بما قد علمت ، ولولا ذلك لآثرته بالخلافة عليك ، فصل رحمه واعرف حقه ، واحفظني فيه . وانظر أخي محمد بن مروان فأقرره على عمله بالجزيرة ولا تعزله عنه ، وانظر أخاك عبد الله بن عبد الملك ، ولا تؤاخذه بشيء كان في نفسك عليه ، واقرره على عمله بمصر . وانظر ابن عمنا هذا علي بن عبد الله بن عباس فإنه قد انقطع إلينا بمودته وهواه ونصيحته ، وله نسب وحق ، فصل رحمه ، واعرف حقه ، وأحسن صحبته وجواره . وانظر الحجاج بن يوسف فأكرمه فإنه هو الذي وطئ لكم المنابر ، وهو سيفك يا وليد ، ويدك على من ناوأك ، فلا تسمعن فيه قول أحد ، واجعله الشعار دون الدثار ، وإن كان في نفسك عليه إحنة فلا تؤاخذه بها ، فإن الإحنة ليست من الخلافة في شيء ، وأنت إليه أحوج منه إليك ، وإلا ألفينك إذا أنا مت تعصر عينيك ، وتحن كما تحن الأمة ، شمر وائتزر [ ص: 276 ] والبس جلد النمر ، وضعني في حفرتي ، وخلني وشأني ، وعليك بشأنك ، وخذ سيفي هذا ، فإنه السيف الذي قتلت به عمرو بن سعيد ، وادع الناس إلى البيعة ، فمن قال بسيفه هكذا فقل بسيفك هكذا ، ثم تمثل بقول عيسى بن زيد حيث يقول:


فهل من خالد إما هلكنا     وهل بالموت يا للناس عار

فلم يزل يردد هذا البيت حتى طفئ ، فقام هشام بعد موته وكان أصغر الأربعة من ولده يقول:


فما كان قيس هلكه هلك واحد     ولكنه بنيان قوم تهدما

فلطمه الوليد وقال: اسكت يا ابن الأشجعية فإنك أحول أكشف تنطق بلسان شيطانك ، ألا قلت كما قال أخو بني أسد بن حجر حيث يقول:


إذا مقرم منا ذرا حد نابه     تخمط فينا ناب آخر مقرم

قال: فقال مسلمة: فيم الصياح إنكم إن صلحتم صلح الناس بكم ، وإن فسدتم فالناس إلى الفساد أسرع ، ثم قال: أوه ، وأنشد:


لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى     على يومه علق إلي حبيب
فإن تكن الأيام أحسن مرة     إلي لقد عادت لهن ذنوب
أتى دون حلو العيش حتى أمره     كروب على آثارهن كروب

فقال سليمان: إنا لله وإنا إليه راجعون ، مات والله أمير المؤمنين ، فأصبح بمنزلة هو فيها والذليل سواء . وسمع الناس الداعية ، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى أخرجت الجنازة ، وخرج الوليد في أثرها وهو محرم ، فنظر إلى سعيد بن عمرو بن سعيد يحمل السرير ، فقال: أشماتة يا ابن اللخناء ، ثم قصده بالقضيب ، فحاصره فحذفه . فلما دفن عبد الملك صعد الوليد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال: يا لها من مصيبة ما أعظمها وأفجعها وأخصها وأعمها وفاة أمير المؤمنين ، ويا لها نعمة ما أجلها وأوجب [ ص: 277 ] الشكر لله عليها خلافة سربلنيها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على الرزية ، والحمد لله على العطية .

ثم قام رجل من ثقيف والناس لا يدرون أيبتدئونه بالتعزية أم بالتهنئة ، فقال: أصبحت يا أمير رزيت خير الآباء ، وسميت بخير الأسماء ، وأعطيت خير الأشياء ، فعزم الله لك الصبر ، وأعطاك في ذلك نوافل الأجر ، وأعانك في حسن ثوابه على الشكر ، قال: ممن أنت؟ قال: من ثقيف ، قال: في كم أنت من العطاء؟ قال: في مائة ، فزاده وجعله في أشرف العطاء ، فكان أول من قضى له الوليد حاجة ذلك الثقفي ، ثم تسايل الناس عليه بالتعزية والتهنئة .

وقد روينا أن عبد الملك كان يقول: أخاف الموت في شهر رمضان لأنني ولدت فيه ، وفطمت فيه ، وأعذرت فيه ، واحتملت فيه ، وختمت القرآن فيه ، وأتتني الخلافة فيه ، فكان موته في نصف شوال من هذه السنة حين ظن أنه آمن من الموت ، وصلى عليه الوليد ، ودفن بالجابية وهو ابن إحدى وستين سنة .

وقيل: أربع وستين ، وقيل: سبع وخمسين ، وقيل: ثمان وخمسين .

واستقامت له الخلافة منذ أجمع عليه بعد قتل ابن الزبير إلى وقت وفاته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر ، وعلى حساب بيعته بعد موت أبيه إحدى وعشرين سنة وستة عشر يوما . وقيل اثنتين وعشرين سنة ونصفا . [ ص: 278 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية