الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي هذه السنة سار مصعب بن الزبير إلى المختار فقتله .

وسبب ذلك أن شبث بن ربعي كان فيمن قاتل المختار ، فهزمهم المختار ، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة ، فقدم شبث على مصعب وهو على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أذنها ، وشق قباءه وهو ينادي: يا غوثاه يا غوثاه . فدخل عليه ومعه أشراف الناس من المنهزمين ، فأخبره بما أصيبوا به ، وسألوه النصر على المختار ، ثم قدم محمد بن الأشعث بن قيس أيضا ، وكان المختار قد طلبه فلم يجده فهدم داره ، فكتب مصعب إلى المهلب ، وهو عامله على فارس: أن أقبل إلينا تشهد أمرنا ، فإنا نريد المسير إلى الكوفة .

فأقبل المهلب بجموع كثيرة وأموال عظيمة ، فدخل على مصعب ، فأمر مصعب الناس بالمعسكر عند الجسر الأكبر ، ودعا عبد الله بن مخنف وقال له: ائت الكوفة فأخرج إلي جميع من قدرت أن تخرجه ، وادعهم إلى بيعتي سرا . وخذل أصحاب المختار ، فمضى حتى جلس في بيته مستترا لا يظهر ، وخرج مصعب ومعه المهلب ، والأحنف بن قيس ، وبلغ المختار الخبر ، فقام في أصحابه فقال: يا أهل الكوفة ، يا أعوان الحق وشيعة الرسول ، إن فراركم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم ، انتدبوا مع أحمد بن شميط ، ودعا الرؤوس الذي كانوا مع ابن الأشتر ، فبعثهم مع أحمد بن شميط ، وإنما فارقوا ابن الأشتر؛ لأنهم رأوه كالمتهاون بأمر المختار .

فخرج ابن شميط حتى ورد المدائن ، وجاء مصعب فعسكر قريبا منه ، فقال: يا هؤلاء ، إنا ندعوكم إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإلى بيعة المختار ، وإلى [ ص: 65 ] أن يجعل هذا الأمر شورى في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فاقتتلوا ، فقتل ابن شميط ، وانهزم أصحابه .

وبلغ الخبر إلى المختار ، فقال: ما من موتة أموتها أحب إلي من موتة ابن شميط ، وساروا فالتقوا وقد جعل مصعب على ميمنته المهلب بن أبي صفرة ، وعلى ميسرته عمر بن عبيد بن معمر التيمي ، وعلى الخيل عباد بن الحصين ، وعلى الرجالة مقاتل بن مسمع البكري ، ونزل هو يمشي متنكبا قوسا ، وتزاحف الناس ودنا بعضهم إلى بعض ، فبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة: أن أحمل على من يليك ، فحمل فكشفهم حتى انتهوا إلى مصعب ، فجثى على ركبتيه ، ولم يكن فرارا ، ورمى بأسهمه ، ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة ثم تحاجزوا ، وحمل المهلب فحطم أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفهم ، وقتل محمد بن الأشعث وعامة أصحابه ، وتفرق أصحاب المختار ، وجاء هو حتى دخل قصر الكوفة فحصر هو وأصحابه ، فكانوا لا يقدرون على الطعام والشراب إلا بحيلة ، وكان يخرج هو وأصحابه فيقاتلون قتالا ضعيفا ، وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت ، وصب عليهم الماء القذر ، وصار المختار وأصحابه يشربون من البئر فيصبون عليه العسل ليتغير طعمه .

ثم أمر مصعب أصحابه فاقتربوا من القصر ثم دخلوه ، فقال المختار لأصحابه:

ويحكم! إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفا ، فانزلوا بنا نقاتل لنقتل كراما ، والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم أن ينصركم الله . فتوقفوا عن قبول قوله ، فقال: أما أنا فوالله لا أعطي بيدي .

ثم أرسل إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن جندب ، فأرسلت إليه بطيب كثير ، فاغتسل وتحنط ووضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته ، ثم خرج في تسعة عشر رجلا ، فقال لهم: أتؤمنونني وأخرج إليكم؟ فقالوا: لا ، إلا على الحكم ، فقال: لا أحكمكم في نفسي أبدا ، فضارب بسيفه حتى قتل ، ونزل أصحابه على الحكم فقتلوا ، وأمر مصعب بكف المختار فقطعت ثم سمرت بمسمار حديد إلى جنب حائط المسجد ، ولم يزل [ ص: 66 ] على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف ، فنظر إليها فقال: ما هذه؟ فقالوا: كف المختار ، فأمر بنزعها .

وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد ، وكتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له: إن [أنت] أجبتني ودخلت في طاعتي فلك الشام وأعنة الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان . وكتب عبد الملك بن مروان من الشام إليه يدعوه إلى طاعته ، ويقول: إن أجبتني ودخلت في طاعتي فلك العراق ، فدعا إبراهيم بن الأشتر أصحابه وقال: ما تقولون؟ أو ماذا ترون؟ فقال بعضهم: تدخل في طاعة عبد الملك ، وقال بعضهم: تدخل في طاعة ابن الزبير ، فقال ابن الأشتر: لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ولا رؤساء أهل الشام تبعت عبد الملك . وأقبل بالطاعة إلى ابن الزبير .

ولما قتل مصعب المختار ملك البصرة والكوفة ، غير أنه أقام بالكوفة ووجه المهلب على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية ، وإن مصعبا لقي عبد الله بن عمر ، فقال له ابن عمر: أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة ، فقال مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة ، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عدتهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا .

والتراث هو الميراث .

التالي السابق


الخدمات العلمية