الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

474 - الحارث المتنبي الكذاب :

روى عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، قال: حدثنا محمد بن المبارك ، قال: حدثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن حسان ، قال :

كان الحارث الكذاب من أهل دمشق ، وكان مولى لأبي الجلاس ، وكان له أب بالحولة ، فعرض له إبليس ، وكان متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه زهادة ، وكان إذا أخذ في التحميد لم يسمع السامعون بأحسن من كلامه . قال: فكتب إلى أبيه: يا أبتاه ، أعجل علي فإني قد رأيت شيئا أتخوف أن يكون من الشيطان . قال: فزاده أبوه [ ص: 205 ] غيا ، فكتب إليه: يا بني ، أقبل على ما أمرت به إن الله يقول: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم ولست بأفاك ولا أثيم ، فامض لما أمرت به ، وكان يجيء إلى أهل المسجد رجلا رجلا ، فيذاكرهم أمره . ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو رأى ما يرضي قبل ، وإلا كتم عليه ، وكان يريهم الأعاجيب ، كان يأتي إلى رخامة [في] المسجد فينقرها بيده فتسبح . وكان يطعمهم فاكهة الصيف في الشتاء ويقول: اخرجوا حتى أريكم الملائكة ، فيخرجهم إلى دير المران ، فيريهم رجالا على خيل . فتبعه بشر كثير ، وفشا الأمر وكثر أصحابه حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة [فعرض على القاسم ، وأخذ عليه العهد والميثاق إن رضي أمرا قبله ، وإن كره كتم عليه] فقال له: إني نبي ، فقال القاسم: كذبت يا عدو الله ، فقال له أبو إدريس: بئس ما صنعت ، إذ لم تلين له حتى نأخذه ، الآن يفر وقام [القاسم] من مجلسه حتى دخل على عبد الملك فأعلمه بأمره ، فبعث عبد الملك في طلبه فلم يقدر عليه ، وخرج عبد الملك حتى نزل الصبيرة واتهم عامة عسكره بالحارث أن يكونوا يرون رأيه ، وخرج الحارث حتى أتى بيت المقدس فاختفى فيه ، وكان أصحابه يخرجون فيلتمسون الرجال ، فيدخلونهم عليه ، وكان رجل من أهل البصرة قد أتى بيت المقدس فدخل على الحارث فأخذ في التحميد ، ثم أخبره بأمره وأنه نبي مبعوث مرسل ، فقال له: إن كلامك لحسن ولكن في هذا نظر . قال: فانظر . فخرج البصري ثم عاد إليه فرد عليه كلامه ، فقال: إن كلامك لحسن ، قد وقع في قلبي وقد آمنت بك وهذا الدين المستقيم ، فأمر ألا يحجب ، فأقبل البصري يتردد إليه ويعرف مداخله ومخارجه وأين يهرب حتى إذا صار أخص الناس به . ثم قال له: ائذن لي ، قال: إلى أين؟ قال: إلى البصرة أكون أول داعية لك بها ، فأذن له . [ ص: 206 ]

فخرج مسرعا إلى عبد الملك وهو بالصبيرة ، فلما دنا من سرادقه صاح: النصيحة النصيحة ، فقال أهل العسكر: وما نصيحتك؟ قال: نصيحة لأمير المؤمنين ، قالوا: قل ، قال : حتى أدنو من أمير المؤمنين ، فأمر عبد الملك أن يأذنوا له ، فدخل وعنده أصحابه . قال: فصاح: النصيحة النصيحة النصيحة ، قال: اخلني لا يكن عندك أحد ، فأخرج من في البيت ، ثم قال له: ادنني ، قال: ادن ، فدنا من عبد الملك على السرير ، قال: ما عندك؟ قال: الحارث ، فلما ذكر الحارث رمى بنفسه عن السرير ثم قال: وأين هو؟ قال: يا أمير المؤمنين هو ببيت المقدس ، عرفت مداخله ومخارجه ، فقص عليه قصته وكيف صنع به ، فقال: أنت صاحبه ، وأنت أمير بيت المقدس وأمير ها هنا فمرني بما شئت ، فقال: يا أمير المؤمنين ، ابعث معي قوما لا يفهمون الكلام ، فأمر أربعين رجلا من فرغانة ، فقال: انطلقوا مع هذا فما أمركم من شيء فأطيعوه . وكتب إلى صاحب بيت المقدس: إن فلانا الأمير عليك حتى تخرج فأطعه فيما أمرك به .

فلما قدم بيت المقدس أعطاه الكتاب ، فقال: مرني بما شئت ، فقال: اجمع لي كل شمعة تقدر عليها ببيت المقدس ، وادفع كل شمعة إلى رجل ورتبهم على أزقة بيت المقدس ، وزواياها فإذا قلت: أسرجوا أسرجوا جميعا . فرتبهم في أزقة بيت المقدس وزواياها بالشمع وتقدم البصري وحده إلى منزل الحارث ، فأتى الباب ، فقال للحاجب: استأذن لي على نبي الله ، قال: في هذه الساعة ما يقدرون عليه وما يؤذن عليه حتى يصبح ، قال: أعلمه أني إنما رجعت شغفا إليه قبل أن أصل فدخل عليه فأعلمه بكلامه ، فأمره ففتح ، قال: ثم صاح البصري: أسرجوا ، فأسرجت الشموع حتى كانت كأنها النهار . ثم قال: من مر بكم فاضبطوه ، ودخل هو إلى الموضع الذي يعرفه [ ص: 207 ] فطلبه فلم يجده ، فقال أصحابه: هيهات تريدون أن تقتلوا نبي الله ، إنه قد رفع إلى السماء ، قال: فطلبه في شق كان قد هيأه سربا ، فأدخل البصري يده في ذلك السرب فإذا هو بثوبه ، فاجتره فأخرجه إلى خارج ، ثم قال للفرغانيين: اربطوه ، فربطوه . فبينا هم يسيرون على البريد إذ قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، فقال أهل فرغانة أولئك العجم: هذا كراننا فهات كرانك أنت ، فساروا به حتى أتي به عبد الملك ، فلما سمع به أمر بخشبة فنصبت فصلبه ، وأمر بحربة وأمر رجلا فطعنه فأصاب ضلعا من أضلاعه فكفت الحربة ، فجعل الناس يصيحون: الأنبياء لا يجوز فيهم السلاح ، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين تناول الحربة ثم مشى إليه ، ثم أقبل يتحسس حتى وافى بين ضلعين فطعنه بها فأنفذه فقتله .

وروى أبو الربيع عن شيخ أدرك القدماء ، قال: لما حمل الحارث على البريد ، وجعلت في عنقه جامعة من حديد فجمعت يده إلى عنقه ، فأشرف على عقبة بيت المقدس تلا هذه الآية: قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي . فتقلقلت الجامعة ثم سقطت من يده ورقبته إلى الأرض ، فوثب الحرس فأعادوها ، ثم ساروا به فأشرف على عقبة أخرى فقرأ آية فسقطت من رقبته فأعادوها ، فلما قدموا على عبد الملك حبسه وأمر رجالا من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويخوفوه ويعلموه أن هذا من الشيطان ، فأبى أن يقبل منهم . فصلب وجاء رجل بحربة فطعنه فانثنت ، فتكلم الناس وقالوا: ما ينبغي لمثل هذا أن يقتل . ثم أتاه حرسي برمح دقيق فطعنه بين ضلعين من أضلاعه فأنفده .

قال مؤلف الكتاب : وسمعت من قال: قال عبد الملك للذي ضربه بالحربة فانثنت: أذكرت الله حين طعنته؟ قال: نسيت ، قال: فاذكر الله . ثم اطعنه ، وطعنه فأنفذها . [ ص: 208 ]

475 - قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة ، أبو ليلى :

وهو النابغة ، نابغة بني جعدة ، وقيل: اسمه عبد الله بن قيس ، والأول أصح .

كان جاهليا وأدرك الإسلام ، ووفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنشده . وقال له عمر:

أنشدنا مما عفا الله عنه . فأنشده قصيدة ، وعمر في الإسلام حتى أدرك الأخطل النصراني ونازعه الشعر . قال ابن قتيبة: فغلبه الأخطل ومات بأصبهان وهو ابن عشرين ومائة سنة .

وقال الأصمعي: عاش مائة وستين .

أخبرنا أبو منصور الطوسي ، وأبو القاسم السمرقندي ، وأبو عبد الله بن البناء ، وأبو الفضل المقري ، وأبو الحسن الخياط ، قالوا: أخبرنا أحمد بن محمد بن النقور ، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله الدقاق ، قال: حدثنا البغوي ، قال: حدثنا داود بن رشيد ، قال: حدثنا يعلى بن الأشدق ، قال: سمعت النابغة يقول :

أنشدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:


بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو بعد ذلك مظهرا

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "فأين المظهر يا أبا ليلى" ، فقلت: الجنة ، فقال: "أجل إن شاء الله" ، ثم قلت:


ولا خير في حلم إذا لم تكن له     بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له     حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أجدت لا يفضض الله فاك" . مرتين .
[ ص: 209 ]

أنبأنا علي بن عبيد الله ، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن النقور ، قال: أخبرنا علي بن عيسى الوزير ، قال: حدثنا البغوي ، قال: حدثني الزبير بن بكار ، قال: حدثني أخي هارون بن أبي بكر ، عن يحيى بن إبراهيم ، عن سليمان بن محمد بن يحيى بن عروة ، عن أبيه ، عن عمه عبد الله بن عمرو ، قال :

أقحمت السنة النابغة - نابغة بني جعدة - فدخل على الزبير المسجد الحرام ، فأنشده:


حكيت لنا الصديق لما وليتنا     وعثمان والفاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس بالحق فاستووا     فعاد صباحا حالك اللون مظلم
أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى     دجى الليل جواب الفلاة عشمشم
لتجبر منه جانبا دغدغت به     صروف الليالي والزمان المصمم

فقال ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى ، فإن الشعر أهون وسائلك عندنا ، أما صفوة مالنا فلآل الزبير ، وأما عفوة فإن بني أسد تشغلنا عنك وتيماء ، ولكن لك في مال الله حقان: حق برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحق بشركتك أهل الإسلام في فيئهم . ثم أخذ بيده فدخل به دار النعم ، فأعطاه قلائص سبعا وجملا رجيلا ، وأوقر له الركاب برا وتمرا وثيابا ، فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحب صرفا ، فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى ، لقد بلغ منه الجهد ، فقال النابغة أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما وليت قريش [فعدلت] فرحمت واسترحمت فرحمت ، وحدثت فصدقت ، ووعدت خيرا فأنجزت ، فأنا والنبيون فراط القاصفين"
. [ ص: 210 ]

رواه محمد بن العباس الزبيري ، عن الزبير بن بكار ، وإسناد الحديث ومتنه له ، قال الزبيري: والفارط الذي يتقدم فيسقي الماء للإبل التي للقوم .

وأنشد القطامي:


واستعجلونا وكانوا من صحابتنا     كما تعجل فراط لوراد

والقاصفون: المسرعون بعضهم إثر بعض ، ومنه الرعد القاصف ، الريح يتبع بعضها بعضا . والرجيل القوي الشديد .

أنبأنا زاهر بن طاهر ، قال: أخبرنا أحمد بن الحسين البيهقي ، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحاكم ، قال: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: سمعت محمد بن داود الخطيب يقول: سمعت أحمد بن أبي سريج يقول: سمعت النضر بن شميل يقول وسئل من أكبر من لقيت؟ قال: المنتجع الأعرابي . قال: وقلت للمنتجع: من أكبر من لقيت؟ قال : النابغة الجعدي ، فقلت للنابغة: كم عشت في الجاهلية؟ قال: [عشت] دارين ، ثم أدركت محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فأسلمت .

قال النضر: الداران مائتا سنة . قال النابغة: فكنت أجيب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبضه الله عز وجل . [ ص: 211 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية