الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين

فمن الحوادث فيها مقتل عبد الله بن الزبير

قد ذكرنا أن ابن الزبير حصر لهلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين ، وما زال الحجاج يحصره ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة . وكانوا يضربونه بالمنجنيق .

قال يوسف بن ماهك: رأيت المنجنيق يرمى به فرعدت السماء وبرقت ، وعلا صوت كالرعد ، فأعظم ذلك أهل الشام ، فأمسكوا أيديهم ، فرفع الحجاج حجر المنجنيق فوضعه ثم قال: ارموا ، ثم رمى معهم ، ثم جاءت صاعقة تتبعها أخرى ، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا ، فانكسر أهل الشام ، فقال الحجاج: لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة ، هذه صواعق تهامة ، هذا الفتح قد حضر ، فصعقت من الغد صاعقة ، فأصيب من أصحاب ابن الزبير عشرة ، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون .

أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق ، قال حدثنا حنبل بن إسحاق ، قال: أخبرنا الحميدي ، قال: حدثنا سفيان ، قال: كانوا يرمون المنجنيق من أبي قبيس ويرتجزون:


خطارة مثل الفنيق المزبد أرمي بها أعواد هذا المسجد

[ ص: 125 ]

قال: فجاءت صاعقة فأحرقتهم ، فامتنع الناس من الرمي فخطبهم الحجاج فقال: ألم تعلموا أن بني إسرائيل كانوا إذا قربوا قربانا فجاءت نار فأكلته علموا أنه قد تقبل منهم ، وإن لم تأكله قالوا: لم تقبل ، فما زال يخدعهم حتى عادوا فرموا .

قال علماء السير: فلم تزل الحرب إلى قبيل مقتل ابن الزبير ، فتفرق عامة أصحابه وخذلوه ، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان حتى ذكر [أن] ولديه حمزة وحبيبا أخذوا لأنفسهما أمانا ، فدخل عبد الله بن الزبير على أمه أسماء حين رأى من الناس ما رأى من الخذلان ، فقال لها: خذلتني الناس حتى ولدي وأهلي ، فلم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة ، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا ، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك ، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له ، وقد قتل عليك أصحابك ، ولا تمكن من رقبتك فينقلب بها غلمان بني أمية ، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك . وإن قلت: كنت على الحق فلما وهن أصحابك ضعفت ، فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين ، وكم خلودك في الدنيا؟! القتل [القتل] أحسن .

فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي ، والذي قمت به ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها ، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله عز وجل أن تستحل حرمته ، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك في مثل ذلك ، فانظري يا أمي فإني مقتول في يومي هذا ، فلا يشتد حزنك ، وسلمي الأمر لله ، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ، ولا عمدا بفاحشة ، ولم يجر في حكم الله عز وجل ، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته ، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا [ ص: 126 ] ربي عز وجل ، اللهم إني لا أقول هذا تزكية [مني لنفسي] ، أنت أعلم بي ، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني .

فقالت: إني لأرجو من الله عز وجل أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني ، اخرج حتى أنظر ما يصير أمرك ، فقال: جزاك الله يا أماه خيرا ، ولا تدعي الدعاء لي قبل وبعد . فقالت: لا أدعه أبدا ، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق . ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل ، وذلك النحيب في الظلماء ، وذلك الصوم في هواجر المدينة ومكة ، وبره بأبيه وبي ، اللهم إني قد أسلمته لأمرك فيه ، ورضيت بما قضيت ، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين .

وفي رواية أخرى: أنه دخل عليها وعليه الدرع والمغفر ، فوقف فسلم ثم دنا ، فتناول يدها فقبلها ، فقالت: هذا وداع فلا تقعد ، فقال: جئت مودعا ، إني لأرى هذا آخر أيامي من الدنيا ، واعلمي يا أماه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي ، قالت: صدقت يا بني ، أتمم على نصرتك ، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك ، ادن مني أودعك . فدنا منها فودعها وقبلها وعانقها ، وقالت حيث مست الدرع: ما [هذا] صنيع من يريد ما تريد ، قال: ما لبست [هذا] الدرع إلا لأشد منك ، قالت: فإنه لا يشد مني . ثم انصرف وهو يقول:


إني إذا أعرف يومي أصبر     إذ بعضهم يعرف ثم ينكر

ثم إن القوم أقاموا على كل باب رجالا وقائدا ، فشحنت الأبواب بأهل الشام ، وكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة ، ولأهل دمشق باب بني شيبة ، ولأهل الأردن باب الصفا ، ولأهل فلسطين باب بني جمح ، ولأهل قنسرين باب بني سهم ، [ ص: 127 ] فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية ، ومرة في هذه الناحية ، كأنه أسد لا يقدم عليه الرجال ، وقالت لابن الزبير زوجته: أخرج أقاتل معك؟ فقال: لا ، وأنشد:


كتب القتل والقتال علينا     وعلى المحصنات جر الذيول

فلما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير الأبواب ، وبات ابن الزبير يصلي ليلته ، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى ، ثم انتبه ، فقال: أذن يا سعد ، فأذن عند المقام ، وتوضأ ابن الزبير ، وركع ركعتي الفجر ثم تقدم ، وأقام المؤذن ، فصلى بأصحابه ، فقرأ: ن والقلم [68: 1] وقال: من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول ، وأنشد:


ولست بمبتاع الحياة بسبة     ولا مرتق من خشية الموت سلما

ثم قال: احملوا على بركة الله ، ثم حمل حتى بلغ بهم الحجون ، فرمي بآجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها ودمي وجهه ، فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته ، قال يرتجز:


فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا     ولكن على أقدامنا تقطر الدما

وتغاووا عليه فقتل .

وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وسار حتى وقف عليه ومعه طارق بن عمرو ، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا ، فبعث الحجاج رأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو إلى المدينة ، فنصبت بها ، ثم ذهب بها إلى عبد الملك ، وسيأتي تمام قصة ابن الزبير في ذكر من مات في هذه السنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية