الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة سبع وسبعين

فمن الحوادث فيها قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي ، وزهرة بن حيويه
.

وذلك أن شبيبا لما هزم الجيش الذي بعثه الحجاج مع ابن الأشعث ، وقتل عثمان بن قطن ، أوى من الحر إلى بلده يصيف بها ، ثم خرج في نحو من ثمانمائة رجل ، فأقبل نحو المدائن ، فندب الحجاج الناس ، فقام إليه زهرة بن حيويه وهو شيخ كبير ، فقال: إنك إنما تبعث الناس متقطعين ، فاستنفر الناس كافة ، وابعث إليهم رجلا شجاعا ممن يرى الفرار عارا . فقال له الحجاج: فأنت لها ، فقال: إني قد ضعفت ، ولكن أخرجني مع الأمير أشير عليه برأيي .

فكتب الحجاج إلى عبد الملك: إن شبيبا قد شارف المدائن ، وإنما يريد الكوفة ، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة ، في كلها يقتل أمراءهم ، ويفل جنودهم فإن رأى أمير المؤمنين [أن] يبعث إلى أهل الشام فيقاتلون عدوهم ويأكلون فيئهم فليفعل .

فلما قرأ الكتاب بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف وبعث حبيب بن [ ص: 188 ] عبد الرحمن في ألفين ، وتجهز أهل الكوفة أيضا ، وقد بعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء وهو مع المهلب ، فبعثه على ذلك الجيش ، فاجتمعوا خمسين ألفا ، ومع شبيب ألف رجل ، فخرج في ستمائة ، وتخلف عنه أربعمائة ، فقال: قد تخلف عنا من لا يحب أن يرى فينا .

ثم عبى أصحابه ، وحمل على الميمنة ففضها ، وانهزمت الميسرة ، وكان عتاب في القلب وزهرة جالسا معه ، فغشيهم ، فطعن عتاب بن ورقاء ، ووطئت الخيل زهرة ، وجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله ، وتمكن شبيب من العسكر ، وحوى ما فيه ، فقال: ارفعوا عنهم السيف ، ثم دعا إلى البيعة فبايعه الناس من ساعتهم وهربوا تحت الليل ، فأقام شبيب يومين ، وبعث إلى أخيه فأتاه من المدائن ، ثم أقبل إلى الكوفة ، وبعث الحجاج إليه جيشا فهزمهم ، وجاء شبيب حتى ابتنى مسجدا في أقصى السبخة ، فلما كان في اليوم الثالث أخرج الحجاج مولاه أبو الورد عليه تجفاف ، وأخرج مجففة كثيرة ، جعلهم على هيئة الغلمان له ، وقالوا: هذا الحجاج ، فحمل عليه شبيب فقتله ، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه . ثم أخرج إليه غلاما آخر فقتله .

ثم خرج الحجاج وقت ارتفاع النهار من القصر ، فقال: ائتوني ببغل أركبه إلى السبخة ، فأتوه ، فلما نظر إلى السبخة وإلى شبيب وأصحابه نزل ، وكان شبيب في ستمائة فارس ، فقعد الحجاج على كرسي ، وأخذ يمدح أهل الشام ويقول: أنتم أهل السمع والطاعة ، فلا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم ، غضوا الأبصار واجثوا على الركب ، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة .

فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم حمل شبيب بجميع أصحابه ، ونادى الحجاج بجماعة الناس ، فوثبوا في وجهه ، فما زالوا يطعنون ويضربون ، فنادى شبيب: يا أولياء الله ، الأرض ، ثم نزل وأمر أصحابه ، فنزل بعضهم ، فقال خالد بن عتاب: ائذن لي في قتالهم ، فإني موتور ، وأنا ممن لا يتهم في نصيحته ، فقال: قد أذنت ، فأتاهم من [ ص: 189 ] ورائهم ، فقتل مصادا أخا شبيب ، وغزالة امرأة شبيب . وجاء الخبر إلى الحجاج ، فقال لأهل الشام: شدوا عليهم فقد أتاهم ما أرعب قلوبهم ، فشدوا عليهم فهزموهم .

وتخلف شبيب في حامية الناس ، ثم عبر على الجسر وقطعه .

وفي رواية: أن غزالة امرأة شبيب نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران ، فدخل بها شبيب الكوفة فوفت بنذرها .

ولما رحل شبيب بعث الحجاج حبيب بن عبد الرحمن الحكمي في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام ، وقال له: حيث ما لقيته فنازله ، وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب أن من جاءنا منهم فهو آمن ، فكان كل من ليست له تلك البصيرة ممن قد هده القتال يجيء فيؤمن ، فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه ، وبلغ شبيبا أن عبد الرحمن بالأنبار ، فأقبل بأصحابه فبيتهم فما قدر عليهم بشيء لأنهم قد احترزوا ، وجرت مقتلة وسقطت أيد ، وفقئت أعين ، فقتل من أصحاب شبيب نحو من ثلاثين ، ومن الآخرين نحو من مائة ، فمل الفريقان بعضهم بعضا من طول القتال ، ثم انصرف عنهم شبيب وهو يقول لأصحابه: ما أشد هذا الذي بنا ، لو كنا إنما نطلب الدنيا ، وما أيسر هذا في جانب ثواب الله -عز وجل- ثم حدث أصحابه ، فقال: قتلت أمس منهم رجلين أحدهما أشجع الناس ، والآخر أجبن الناس ، خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا القرية يشترون منها حوائجهم ، فاشترى أحدهم حاجته ثم خرج قبل أصحابه وخرجت معه ، فقال لي: أتشتري علفا ، فقلت: إن لي رفقاء قد كفوني ذلك ، أين ترى عدونا هذا؟ فقال: قد بلغني أنه نزل قريبا منا ، وأيم الله لوددت أني قد لقيت شبيبهم هذا ، قلت فتحب ذلك ، قال: نعم ، قلت: فخذ حذرك فأنا والله شبيب ، فانتضيت سيفي ، فخر والله ميتا وانصرفت ، فلقيت الآخر خارجا من القرية ، فقال لي:

أين تذهب الساعة؟ وإنما يرجع الناس إلى عسكرهم ، فلم أكلمه ، ومضيت فتبعني حتى لحقني فعطفت عليه ، فقلت له: ما لك؟ فقال: أنت والله عدونا؟ فقلت: أجل [ ص: 190 ] والله ، فقال: والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك ، فحملت عليه وحمل علي فاضطربنا بسيفنا ساعة ، فو الله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه ، فقتلته .

التالي السابق


الخدمات العلمية