الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            1232 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا موسى بن إسماعيل، نا إبراهيم بن سعد، نا ابن شهاب، أن أنس بن مالك، حدثه: " أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد [ ص: 520 ] بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في [ ص: 521 ] كل صحيفة، أو مصحف أن يحرق ".

                                                                            هذا حديث صحيح.

                                                                            قال رحمه الله: فيه البيان الواضح أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من غير أن زادوا فيه، أو نقصوا منه شيئا، والذي حملهم على جمعه ما جاء بيانه في الحديث، وهو أنه كان مفرقا في العسب، واللخاف وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا فيه إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم، فأمر بجمعه في موضع واحد، باتفاق من جميعهم، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن قدموا شيئا أو أخروا، أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه، ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن [ ص: 522 ] على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا، بتوقيف جبريل صلوات الله عليه إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السور التي يذكر فيها كذا، روي معنى هذا عن عثمان رضي الله عنه.

                                                                            وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ختم السورة حتى تنزل: ( بسم الله الرحمن الرحيم، ) فإذا نزل: ( بسم الله الرحمن الرحيم، ) علم أن السورة قد ختمت.

                                                                            فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد، لا في ترتيبه، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على الترتيب الذي هو في مصاحفنا، أنزله الله تعالى جملة واحدة في شهر رمضان ليلة القدر إلى السماء الدنيا، كما قال الله سبحانه وتعالى: ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) ، وقال الله عز وجل: ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ ص: 523 ] ثم كان ينزله مفرقا على رسوله صلى الله عليه وسلم مدة حياته عند الحاجة، وحدوث ما يشاء الله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى: ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ) فترتيب النزول غير ترتيب التلاوة، وكان هذا الاتفاق من الصحابة سببا لبقاء القرآن في الأمة رحمة من الله عز وجل على عباده، وتحقيقا لوعده في حفظه، كما قال الله عز وجل: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .

                                                                            ثم إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرؤون القرآن بعده على الأحرف السبعة التي أقرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله عز وجل، إلى أن وقع الاختلاف بين القراء في زمن عثمان، وعظم الأمر فيه، وكتب الناس بذلك من الأمصار إلى عثمان، وناشدوه الله تعالى في جمع الكلمة، وتدارك الناس قبل تفاقم الأمر، وقدم حذيفة بن اليمان من غزوة أرمينية، فشافهه بذلك، فجمع عثمان عند ذلك المهاجرين والأنصار، وشاورهم في جمع القرآن في المصاحف على حرف واحد، ليزول بذلك الخلاف، وتتفق الكلمة، واستصوبوا رأيه، وحضوه عليه، ورأوا أنه من أحوط الأمور للقرآن، فحينئذ أرسل عثمان إلى حفصة، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، فأرسلت إليه، فأمر زيد بن ثابت، والرهط القرشيين الثلاثة فنسخوها في المصاحف، وبعث بها إلى الأمصار.

                                                                            وروي عن مصعب بن سعد، قال: لما كثر اختلاف الناس [ ص: 524 ] في القرآن، قالوا: قراءة ابن مسعود وقراءة أبي، وقراءة سالم مولى أبي حذيفة، قال: فجمع عثمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت أن أكتب مصاحف على حرف زيد بن ثابت، ثم أبعث بها إلى الأمصار؟ قالوا: نعم ما رأيت، قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال: فأي الناس أكتب؟ قالوا: زيد بن ثابت كاتب الوحي، قال: فليمل سعيد، وليكتب زيد بن ثابت، فكتب مصاحف، فبعث بها إلى الأمصار، قال: فرأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: أحسن والله عثمان.

                                                                            وروي عن سويد بن غفلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب، يقول: " اتقوا الله أيها الناس، إياكم والغلو في عثمان، وقولكم: حراق المصاحف، فوالله ما حرقها إلا على ملإ منا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جميعا، فقال: ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف الناس فيها؟ يلقى الرجل الرجل، فيقول: قراءتي خير من قراءتك، وقراءتي أفضل من قراءتك، وهذا شبيه بالكفر، فقلنا: ما الرأي يا أمير المؤمنين؟ قال: فإني أرى أن أجمع الناس على مصحف واحد، فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا، فقلنا: نعم ما رأيت، فأرسل إلى زيد بن ثابت، وسعيد [ ص: 525 ] بن العاص، فقال: ليكتب أحدكما، ويمل الآخر، فإذا اختلفتم في شيء، فارفعاه إلي، فما اختلفنا في شيء من كتاب الله إلا في حرف واحد في سورة البقرة، قال سعيد: ( التابوت ) ، وقال زيد: 0 التابوه 0، فرفعناه إلى عثمان، فقال: اكتبوه ( التابوت ) ، قال علي: ولو وليت الذي ولي عثمان لصنعت مثل الذي صنع.

                                                                            قال أبو مجلز: يرحم الله عثمان لو لم يجمع الناس على قراءة واحدة، لقرأ الناس القرآن بالشعر.

                                                                            وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: كانت قراءة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرؤون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان، ويتخذه إماما.

                                                                            ويقال: إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل، وهي التي بين فيها ما نسخ وما بقي.

                                                                            قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 526 ] في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف رضي الله عنهم أجمعين.

                                                                            قال الحسن: اكتب في المصحف في أول الإمام: ( بسم الله الرحمن الرحيم، ) واجعل بين السورتين خطا [ ص: 527 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية