الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم [الأنبياء : 69] .

[69] فلما جمع نمرود قومه لإحراق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، حبسوه في بيت بكوثا شهرا ، وبنوا بنيانا كالحظيرة ، قيل : طوله في السماء ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، وملؤوه من الحطب ، وأوقدوا في نواحيه النيران ، فصارت نارا واحدة شديدة ، حتى إن الطير لتحترق إذا مرت بها .

وروي أنهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها ، فجاء إبليس وعلمهم عمل المنجنيق ، فعملوه ، وعمدوا إلى إبراهيم عليه السلام ، فغلوه ووضعوه في كفة المنجنيق ، فثم قال إبراهيم : "لا إله إلا أنت سبحانك ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ، فاستغاثت الملائكة قائلة : يا رب! هذا خليلك قد نزل به من عدوك ما أنت أعلم به ، فقال تعالى : إن خليلي ليس لي خليل سواه ، وأنا إلهه ، وليس له إله غيري ، فإن استغاث بكم ، فانصروه ، وإلا ، فخلوا بيني وبينه ، فأتاه خازن المياه فقال له : إن أردت أخمدت النار ، وأتاه خازن الرياح فقال له : إن شئت طيرت النار في الهواء ، فقال إبراهيم : [ ص: 371 ]

لا حاجة لي إليكم ، حسبي الله ونعم الوكيل ، وتعرض له جبريل وهو يقذف به في لجة الهواء إلى النار ، وقال له : هل لك من حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا ، وأما إلى الله ، فبلى ، قال جبريل : فاسأل ربك ، فقال إبراهيم : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فلم يستنصر بغير الله ، ولا جنحت همته لما سوى الله ، بل استسلم لحكم الله مكتفيا بتدبير الله -عز وجل- عن تدبير نفسه ، وكان يومئذ ابن ست عشرة سنة ، ولما وقع في النار ، لم يحترق سوى وثاقه" ، فذلك قوله تعالى : قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم أي : ابردي ليسلم ، فذهبت حرارتها وإحراقها ، وبقيت إضاءتها وإشراقها .

قال ابن عباس : "لو لم يقل : بردا وسلاما ، [لمات إبراهيم من بردها ، ولو لم يقل : على إبراهيم ، لبقيت بردا وسلاما] أبدا" .

وروي أنه لم يبق في ذلك الوقت نار بمشارق الأرض ومغاربها إلا خمدت ، ظانة أنها المعنية بالخطاب ، قال كعب الأحبار : "جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ ؛ فإنه كان ينفخ في النار" فلذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلها ، وسماها فويسقا .

وعن علي رضي الله عنه : "أن البغال كانت تتناسل ، وكانت أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم ، فدعا عليها ، فقطع الله نسلها ، ولما [ ص: 372 ] سقط في النار ، تلقته الملائكة ، فأجلسوه على الأرض ، فإذا بعين ماء عذب وروضة وورد ونرجس ، فأقام بها سبعة أيام ، وجاءه ملك بقميص من حرير الجنة ، وطنفسة ، فألبسه القميص ، وأجلسه على الطنفسة ، وجعل يحدثه ويقول له : إن ربك يقول لك : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي" .

وروي أنه قال : "ما كنت قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار" .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية