الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين [الأنبياء : 79] .

[79] ففهمناها أي : الحكومة سليمان وعلمناه القضية .

فيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان ؛ لأن الغنم رعت الزرع بلا راع ليلا ، فتحاكما إلى داود ، فحكم لصاحب الزرع بالغنم ، فقال سليمان : غير هذا أرفق بهما ، وكان سنه إحدى عشرة سنة ، فعزم عليه داود بالأبوة [ ص: 377 ] والنبوة ليحكمن بينهما ، فدفع الغنم إلى صاحب الزرع ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ، وإلى صاحب الغنم الحرث يصلحه ، فإذا عاد كحاله حين هلك ، ترادا ، فقال له : القضاء ما قضيت ، هذا كان في شريعتهم .

وأما في شريعتنا ، فما أفسدته البهائم من الزرع والشجر وغيرهما نهارا بلا راع ، فلا ضمان على ربها عند مالك والشافعي وأحمد ، وما أفسدته ليلا ، ففيه الضمان عندهم إن فرط ، وإلا ، فلا ؛ لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار ، والمواشي تسرح بالنهار ، وترد بالليل إلى المراح .

وعند أبي حنيفة : لا ضمان في ذلك في ليل ولا نهار ، إلا أن يكون معها سائق أو قائد ، إلا أن ترسل عمدا .

واختلفوا فيما أتلفت من الأنفس والأموال سوى الزروع والثمار ، فقال مالك : لا ضمان على ربها في ليل ولا نهار ، وقال الشافعي : يضمن ما أتلفت من نفس ومال إذا كان معها ليلا أو نهارا ، فإن بالت أو راثت بطريق ، فتلف به نفس أو مال ، فلا ضمان عليه ، وقال أبو حنيفة وأحمد : إذا كانت في يد راكب أو سائق أو قائد ، فيضمن ما جنت يدها أو فمها ، أو وطؤها برجلها ، وقيد أحمد بما [إذا كان قادرا على التصرف فيها ، ولا يضمن عندهما ما نفحت برجلها ، وقيد أحمد] بما إذا لم يكبحها ؛ أي : يجد بها زيادة على المعتاد ، أو يضربها على وجهها ، ولا يضمن عندهما ما جنت بذنبها ، والله أعلم . [ ص: 378 ]

وكان حكم داود وسليمان -عليهما السلام- بوحي عند بعض ، ومنع الأنبياء من الاجتهاد ؛ لاكتفائهم بالوحي ، فكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود باجتهاد عند بعض ؛ ليدركوا فضيلة المجتهدين ، وجوز الخطأ عليهم ؛ لأن المجتهد لا يقدر على إصابة الحق في كل حادثة ، وأما العلماء ، فلهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب أو سنة ، وإذا أخطأوا ، فلا إثم عليهم .

وتقدم ذكر مذاهب الأئمة في جواز اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر الدنيا ، وحكم المجتهدين بعده في سورة التوبة عند ذكر قصة حنين ، ومما يوضح أن داود وسليمان كانا على الصواب قوله : وكلا يعني : داود وسليمان .

آتينا حكما وعلما الفهم في القضاء والنبوة .

قال الحسن : لولا هذه الآية ، لرأيت الحكام قد هلكوا ، ولكن الله تعالى حمد هذا بصوابه ، وأثنى على هذا باجتهاده .

وسخرنا مع داود الجبال يسبحن يقدسن الله تعالى معه .

والطير عطف على الجبال .

وكنا فاعلين قادرين على المذكور من التسبيح والتفهيم ، وكان داود يفهم تسبيح الحجر والشجر ، وكانت الجبال تجاوبه بالتسبيح ، وكذلك الطير .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية