الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 385 ]

فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [الأنبياء : 88] .

[88] فاستجبنا له أجبناه ونجيناه من الغم من تلك الظلمات .

وكذلك ننجي المؤمنين من كل كرب إذا استغاثوا بنا . قرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : (نجي ) بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء ، على معنى : (ننجي ) ، ثم حذفت إحدى النونين تخفيفا ، كما جاء عن ابن كثير وغيره قراءة ونزل الملائكة تنزيلا في الفرقان [الآية : 25] ، قال الإمام أبو الفضل الرازي في كتابه "اللوامح" : ونزل الملائكة تنزيلا على حذف النون الذي هو فاء الفعل من (ننزل ) . قراءة أهل مكة ووجه النصب في المؤمنين : أن المصدر قام مقام الفاعل ، فبقي الـ (المؤمنين ) مفعولا به صريحا ، تقديره : نجي النجاء المؤمنين ، ونظيره ليجزي قوما على قراءة أبي جعفر في الجاثية [الآية : 14] ؛ أي : ليجزي الجزاء قوما ، وقرأ الباقون : بنونين ، الثانية ساكنة مع تخفيف الجيم مستقبل أنجينا ، وقد اعترض الزمخشري وغيره على قراءة ابن عامر وأبي بكر ، وزعموا أنها لحن ، فرد الكواشي اعتراضهم ، وبين وجه الصحة فيها ، وأشبع الكلام في ذلك .

* * * [ ص: 386 ]

وتقدم ذكر يونس عليه السلام ، ووفاته ، ومحل قبره في سورة النساء [الآية : 163] ، وتقدم طرف من ذكر قصته في سورة يونس [الآية : 98] ، ولنذكر في هذا المحل باقيها باختصار ، فنقول وبالله التوفيق : يونس بن متى عليه السلام ، قيل : إنه من بني إسرائيل ، وإنه من سبط بنيامين ، وتزوج بنت رجل من الأولياء اسمه زكريا كان مقيما بالرملة ، فأقام يونس عنده ، ثم بعد وفاة زكريا ، توجه إلى بيت المقدس يعبد الله تعالى ، وكانت بعثته في أيام يوثم بن عزيا هو أحد ملوك بني إسرائيل ، وبعثه الله إلى أهل نينوى قبالة الموصل ، بينهما دجلة ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فنهاهم وواعدهم العذاب في يوم معلوم إن لم يتوبوا ، وضمن ذلك عن ربه -عز وجل- ، وخرج يونس من بين أظهرهم ، فلما أظلهم العذاب ، آمنوا ، فكشفه الله عنهم كما تقدم في سورة يونس ، وجاء يونس لذلك اليوم ، فلم ير العذاب حل بهم ، ولا علم بإيمانهم ، فذهب مغاضبا ، ودخل في سفينة من سفن دجلة ، فوقفت السفينة ولم تتحرك ، فقال رئيسها : فيكم من له ذنب ، فتساهموا على من يلقونه في البحر ، فوقعت المساهمة على يونس ، فرموه ، فالتقمه الحوت ، وسار به إلى الأيكة ، وكان من شأنه ما أخبر الله تعالى به .

وملخص قصته : أن الحوت التقمه ، فكان يونس يسجد على قلب الحوت ، والحوت يقول : يا يونس! أسمعني تسبيح المغمومين ، وهو يقول : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فتقول الملائكة : "إلهنا! إنا نسمع تسبيح مكروب ، كان لك شاكرا ، اللهم فارحمه في كربته وغربته" ، واختلف في مدة لبثه ، فمنهم من قال : أربعين يوما ، وقيل : ثلاثة أيام ، فلما انقضت مدة قدرها الله تعالى له ، أمر الحوت أن يرده إلى الموضع الذي أخذه منه ، فشق ذلك على الحوت ؛ لاستئناسه بذكر الله [ ص: 387 ] تعالى ، فقيل له : اقذفه ، فقذفه في الساحل ، فذلك قوله تعالى : فنبذناه بالعراء وهو سقيم [الصافات : 145] ، وخرج يونس مثل الفرخ المنتوف ، وقد ذهب بصره ، وهو لا يقدر على القيام ، فأنبت الله شجرة من يقطين لها أربعة آلاف غصن ، فكانت فراشه وغطاءه ، وأمر الله الظبية فجاءته وأرضعته حتى قوي ، وهبط جبريل -عليه السلام- ، فسلم عليه ، وأمر يده على رأسه وجسده ، فأنبت الله لحيته ، ورد عليه بصره ، وأوحى الله إليه بإيمان قومه حين رأوا العذاب ، ثم هبط إليه ملك ، ودفع إليه حلتين ، وقال : سر إلى قومك ؛ فإنهم يتمنونك ، فاتزر بواحدة ، وارتدى بأخرى ، وسار يونس -عليه السلام- ، فاجتمع بزوجته وولديه قبل وصوله إلى قومه ، ثم وصل الخبر إلى قومه ، فوثب الملك عن سريره ، وخرجوا كلهم إلى يونس -عليه السلام- ، وسلموا عليه ، وفرحوا به ، وحملوه إلى المدينة ، وأقام فيهم يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى أن توفاه الله تعالى ، وفي قصته خلاف بين المفسرين والمؤرخين ، والله أعلم .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية