الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
555 - حدثنا سليمان بن أحمد ثنا عمرو بن محمد بن الصباح قال ثنا يحيى بن عبد الله ثنا أبو بكر بن أبي مريم عن سعيد بن عمرو الأنصاري عن أبيه :

قال ابن عباس : فكان من دلالات حمل النبي صلى الله عليه وسلم أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة وقالت : حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة ، وهو أمان الدنيا وسراج أهلها ، ولم يبق كاهنة من قريش ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها ، وانتزع علم الكهنة ، ولم يكن سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا ، والملك مخرسا لا ينطق يومه ذلك ، ومرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات ، وكذلك البحار يبشر بعضهم بعضا به ، في كل شهر من شهوره ، نداء في الأرض ونداء في السماء : أن أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا فكانت أمه تحدث عن نفسها وتقول : أتاني آت حين مر بي من حمله ستة أشهر فوكزني برجله في المنام وقال : يا آمنة إنك قد حملت بخير العالمين طرا ، فإذا ولدتيه فسميه محمدا ، واكتمي شأنك . قال : فكانت تقول : لقد أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد من القوم ذكر ولا [ ص: 611 ] أنثى ، وإني لوحيدة في المنزل ، وعبد المطلب في طوافه ، قالت : فسمعت وجبة شديدة وأمرا عظيما ، فهالني ذلك ، وذلك يوم الاثنين ، فرأيت كأن جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني كل رعب ، وكل فزع ووجع كنت أجده ، ثم التفت ، فإذا أنا بشربة بيضاء وظننتها لبنا ، وكنت عطشى ، فتناولتها فشربتها ، فأضاء مني نور عال ، ثم رأيت نسوة كالنخل الطوال كأنهن بنات عبد المطلب يحدقن بي ، فبينا أنا أعجب وأقول : واغوثاه ، من أين علمن بي هؤلاء ، واشتد بي الأمر وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول ، فإذا أنا بديباج أبيض قد مد بين السماء والأرض ، وإذا قائل يقول : خذوه عن أعين الناس ، قالت : ورأيت رجالا قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة ، وأنا يرشح مني عرق كالجمان ، أطيب ريحا من المسك الأذفر ، وأنا أقول يا ليت عبد المطلب قد دخل علي ، وعبد المطلب عني ناء ، قالت : فرأيت قطعة من الطير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتى غطت حجرتي ، مناقيرها من الزمرد ، وأجنحتها من اليواقيت ، فكشف لي عن بصري فأبصرت ساعتي مشارق الأرض ومغاربها ، ورأيت ثلاث أعلام مضروبات ، علم في المشرق ، وعلم في المغرب ، وعلم على ظهر الكعبة ، وأخذني المخاض ، واشتد بي الأمر جدا ، فكنت كأني مستندة إلى أركان النساء ، وكثرن علي ، حتى كأن الأيدي معي في البيت وأنا لا أرى شيئا ، فولدت محمدا صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج من بطني درت فنظرت إليه ، فإذا أنا به ساجد قد رفع إصبعيه كالمتضرع المبتهل ، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء تنزل حتى غشيته ، فغيب عن وجهي فسمعت مناديا يقول : طوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم شرق الأرض وغربها وأدخلوه البحار كلها [ ص: 612 ] ليعرفوه باسمه ونعته وصورته ويعلموا أنه سمي فيها الماحي ، لا يبقى شيء من الشرك إلا محي به في زمنه ، ثم تجلت عنه في أسرع وقت ، فإذا به مدرج في ثوب صوف أبيض أشد بياضا من اللبن ، وتحته حريرة خضراء ، قد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب الأبيض وإذا قائل يقول : قبض محمد على مفاتيح النصر ، ومفاتيح الريح ، ومفاتيح النبوة .

ولمولده صلى الله عليه وسلم وقع الآيات العجيبة مما روي مما تقدم ذكره في موضعه ، منها ما قاله اليهودي الذي قدم مكة تاجرا في الليلة التي ولد فيها ، إنه ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة ، به شامة بين كتفيه فيها شعرات متواليات ، لا يرضع ليلتين ، فعجب القوم من حديثه فقاموا حتى دخلوا على آمنة فقالوا : أخرجي ابنك ، فنظر إليه وإلى الشامة بين كتفيه ، فخر اليهودي مغشيا عليه ، فلما أفاق قالوا له : ما لك ؟ قال : ذهبت والله نبوة بني إسرائيل ، وخرج الكتاب من أيديهم ، وهذا المولود يقتلهم ، ويبين أخبارهم ، وليسطون بكم يا معشر العرب .

وحجب الشيطان في تلك الليلة من استراق السمع ورموا بالشهب ، ونطقت الكهان والسحرة مثل " شق " و " سطيح " وعظماء الملوك بما رأت في تلك الليلة ، ككسرى ، وارتجاس إيوانه ، وخمود النيران ، وغيض الماء ، وفيض الأودية ، ورؤيا المؤبذان ، كما تقدم ذكره بأسانيد في باب مولده صلى الله عليه وسلم .

وأما قوله تعالى ورحمة منا - فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصفه الله تعالى بأعم الرحمة وأكملها فقال وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . [ ص: 613 ]

107 - فمن صدقه وآمن به فإنه يرحمه الله تعالى في الدارين ، ومن لم يصدقه أمن في حياته مما عوقب به المكذبون من الأمم ، الخسف والمسخ والقذف ، وقد تقدم بيان هذا .

فإن قلت : إن عيسى كان يخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله تعالى .

قلنا : إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم نظيره ، فإن عكاشة بن محصن انقطع سيفه يوم بدر ، فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جذلا من حطب وقال : قاتل بهذا ، فعاد في يده سيفا شديد المتن ، أبيض الحديد ، طويل القامة ، فقاتل به حتى فتح الله تعالى على المسلمين ، ثم لم يزل يشهد به المشاهد إلى أيام الردة ، فالمعنى الذي به أمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصير الخشبة حديدا ، ويبقى على الأيام ، هو المعنى الذي خلق به عيسى من الطين كهيئة الطير ، ثم استماع التسبيح والتقديس والتهليل من الحجر الصم في يده ، وشهادة الأحجار والأشجار له بالنبوة ، وأمره للأشجار بالاجتماع والالتزاق والافتراق ، كل ذلك جانس إحياء الموتى ، وطيران المصور من الطير كهيئة الطير .

فإن قيل : إن عيسى كان يبرئ العميان والأكمه والأبرص بإذن الله .

قلنا : إن قتادة بن النعمان ندرت حدقته يوم أحد من طعنة ، أصيب في عينه ، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها فكان لا يدري أي عينيه أصيب ، وكان أحسن عينيه وأحدهما ، وقد تقدم ذكره بإسناده . [ ص: 614 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية