الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
44 - حدثنا أحمد بن السندي بن بحر ، قال : ثنا الحسن بن علويه القطان ، قال : ثنا إسماعيل بن عيسى ، قال : ثنا إسحاق بن بشر أبو حذيفة ، قال : ثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن كعب الأحبار ، قال : " كان سبب استنقاذ بني إسرائيل من أرض بابل رؤيا بختنصر ، فإنه رأى رؤيا فزع منها ، فدعا كهنته وسحرته ، فأخبرهم بما أصابه من الكرب في رؤياه ، وسألهم أن يعبروها له ، فقالوا : قصها علينا ، قال : قد نسيتها ، فأخبروني بتأويلها ، قالوا : فإنا لا نقدر أن نخبرك بتأويلها حتى تقصها . فغضب ، وقال : اخترتكم واصطنعتكم لمثل هذا ، اذهبوا ، فقد أجلتكم ثلاثة أيام ، فإن أتيتموني بتأويلها ، وإلا قتلتكم ، وشاع ذلك في الناس ، فبلغ ذلك دانيال وهو محبوس ، فقال لصاحب السجن - وهو إليه محسن - : هل لك أن تذكرني للملك ؟ فإن عندي علم رؤياه ، وإني أرجو أن تنال عنده بذلك منزلة ، وتكون سبب عافيتي ، قال له صاحب السجن : إني أخاف عليك سطوة الملك ، لعل غم السجن حملك على أن تتروح بما ليس عندك فيه علم ، مع أني أظن إن كان عند أحد في هذه الرؤيا علم فأنت هو ، قال دانيال : لا تخف علي ، فإن لي ربا يخبرني بما شئت من حاجتي ، فانطلق صاحب السجن فأخبر بختنصر بذلك ، فدعا دانيال فأدخل عليه ، ولم يدخل عليه أحد إلا يسجد له ، فوقف دانيال فلم يسجد ، فقال الملك لمن في البيت : اخرجوا فخرجوا ، فقال بختنصر لدانيال [ ص: 84 ] : ما منعك أن تسجد لي ؟ قال دانيال : إن لي ربا آتاني هذا العلم الذي سمعت به على أن لا أسجد لغيره ، فخشيت أن أسجد لك فينسلخ عني هذا العلم ، ثم أصير في يدك أميا فلا تنتفع بي فتقتلني ، فرأيت ترك السجدة أهون من قتلي ، وخطر سجدة أهون من الكرب والبلاء الذي أنت فيه ، فتركت السجود نظرا إلى ذلك .

فقال بخت نصر : لم يكن أوثق في نفسي منك حين وفيت لإلهك ، وأحب الرجال عندي الذين يوفون لأربابهم بالعهود ، فهل عندك علم بهذه الرؤيا التي رأيت ؟ قال : نعم ، عندي علمها وتفسيرها ، رأيت صنما عظيما رجلاه في الأرض ورأسه في السماء ، أعلاه من ذهب ، وأوسطه من فضة ، وأسفله من نحاس ، وساقاه من حديد ، ورجلاه من فخار ، فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه ، وإحكام صنعته ، قذفه الله عز وجل بحجر من السماء ، فوقع على قمة رأسه ، فدقه حتى طحنه ، فاختلط ذهبه ، وفضته ونحاسه ، وحديده ، وفخاره ، حتى تخيل إليك لو اجتمع جميع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك ، ولو هبت ريح لأذرته ، ونظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو ، ويعظم وينتشر ، حتى ملأ الأرض كلها ، فصرت لا ترى إلا السماء والحجر ، فقال له بخت نصر : صدقت ، هذه الرؤيا التي رأيت ، فما تأويلها ؟

قال دانيال : فأما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان ، وفي أوسطه ، وفي آخره ، وأما الذهب فهذا الزمان ، وهذه الأمة التي أنت فيها ، وأنت ملك لها ، وأما الفضة فابنك يملك بعدك ، وأما النحاس : فإنه الروم ، وأما الحديد ففارس ، وأما الفخار فأمتان يملكهما امرأتان إحداهما في مشرق اليمن ، والأخرى في غربي الشام ، وأما الحجر الذي قذف به [ ص: 85 ] الصنم فدين الله عز وجل يقذف به هذه الأمة في آخر الزمان ؛ ليظهره عليها ، فيبعث الله نبيا أميا من العرب فيدوخ الله به الأمم والأديان ، كما رأيت الحجر دوخ أصناف الصنم ، ويظهره على الأديان والأمم ، كما رأيت الحجر ظهر على الأرض وانتشر فيها حتى علاها ، فيمحص الله به الحق ، ويزهق به الباطل ، ويهدي به الضلال ، ويعلم به الأميين ، ويقوي به الضعفة ، ويعز به الأذلة ، وينصر به المستضعفين .

قال بخت نصر : ما أعلم أحدا استعنت به منذ وليت الملك على شيء غلبني غيرك ، ولا أحد له عندي يد أعظم من يدك ، وأنا أجازيك بإحسانك . وذكر القصة بما يليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية