الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
427 - وذكر الواقدي ما ذكره عروة والزهري ومحمد بن إسحاق وزاد تفصيلا وأشياء في جملتها بيان ظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند اليهود ، وثبوت نعته وصفته في التوراة عندهم ، وقال : لما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : نفعل يا أبا القاسم ما أحببت ، قد آن لك أن تزورنا وأن تأتينا ، اجلس نطعمك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستند إلى بيت من بيوتهم .

ثم خلا بعضهم إلى بعض فتناجوا ، فقال حيي بن أخطب : يا معشر اليهود قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم في نفير من أصحابه لا يبلغون عشرة ، وكان معهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة ، فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت فاقتلوه ، فلا تجدونه أخلى منه الساعة ، فإنه إن قتل تفرق أصحابه ، فلحق من كان معه من قريش ، وبقي من كان هاهنا من الأوس والخزرج ، فالأوس حلفاؤكم ، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوما من الدهر فمن الآن .

قال عمرو بن جحاش بن كعب النضيري أنا أظهر على هذا البيت ، فأطرح عليه صخرة .

قال فقال سلام بن مشكم : يا قوم أطيعوني هذه المرة وخالفوني [ ص: 492 ] الدهر ، والله لئن فعلتم فإن هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه ، فلا تفعلوا فوالله إن فعلتم الذي تريدون ليقومن بهذا الدين منهم قائم إلى قيام الساعة ، فيذل اليهود ، ويظهر دينه ، وقد هيأ عمرو بن جحاش الصخرة ليرسلها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدحرجها ، فلما أشرف بها جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بما هموا به ، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا كأنه يريد حاجة ، وتوجه إلى المدينة ، وجلس أصحابه يتحدثون ، وهم يظنون أنه قام يقضي حاجته ، فلما يئسوا من ذلك قال أبو بكر : ما مقامنا هاهنا لشيء لقد توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر .

قال حيي بن أخطب : عجل أبو القاسم ، كنا نريد أن نقضي حاجته ونغديه .

وندمت اليهود على ما صنعوا ، فقال لهم كنانة بن صوريا هل تدرون لم قام محمد ؟ قالوا : لا والله ما ندري ؟ ولا تدري أنت قال : بلى والتوراة ، إني لأدري قد أخبر محمد بما هممتم به من الغدر ، فلا تخدعوا أنفسكم ، والله إنه لرسول الله ، وما قام إلا أنه أخبر بما هممتم به ، وإنه لآخر الأنبياء ، كنتم تطمعون أن يكون من بني هارون ، فجعله الله عز وجل حيث شاء ، وإن كتبنا والذي درسنا في التوراة التي لم تغير ولم تبدل أن مولده بمكة ، وأن هجرته بيثرب ، وصفته بعينها ما تخالف ما في كتابنا ، ولكأني أنظر إليكم ظاعنين تتناغى صبيانكم ، قد تركتم دوركم خلوفا ، وأموالكم إنما هي شرفكم ، فأطيعوني في خصلتين والثالثة لا خير فيها . [ ص: 493 ] قالوا : ما هما ؟ .

قال : تسلمون وتدخلون مع محمد صلى الله عليه وسلم فتأمنون على أموالكم وأولادكم ، وتكونون من علية أصحابه ، وتبقى بأيديكم أموالكم ، ولا تخرجون من دياركم .

قالوا : لا نفارق التوراة وعهد موسى .

قال : فإنه مرسل إليكم اخرجوا من بلدي ، فقولوا نعم ، فإنه لا يستحل لكم دما ولا مالا ، فتبقى أموالكم ، إن شئتم بعتم ، وإن شئتم أمسكتم .

قالوا : أما هذه فنعم .

قال : أما والله إن الأخرى خيرهن لي .

قالوا : ما هي ؟

قال : أما والله لولا أني أفضحكم أسلمت ، ولكن لا تعير الشعثاء بإسلامي أبدا حتى يصيبني ما أصابكم - والشعثاء ابنته التي كان حسان بن ثابت يشبب بحسنها - .

وقال سلام بن مشكم قد كنت لما صنعتم كارها ، وهو مرسل إلينا : أن اخرجوا من داري ، فلا تعقب يا حيى كلامه ، وأنعم له بالخروج ، فاخرج من بلاده ، فقال : أفعل .

فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تبعه أصحابه فلقوا رجلا خارجا من المدينة ، فسألوه : هل لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : نعم ، لقيته داخلا .

فلما انتهى أصحابه إليه وجدوه وقد أرسل إلى محمد بن مسلمة [ ص: 494 ] يدعوه ، فقال أبو بكر : قمت يا رسول الله ولم نشعر .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : همت اليهود بالغدر بي فأخبرني الله تعالى بذلك .

وجاء محمد بن مسلمة ، وقال : اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم برسالة ولست أذكرها لكم حتى أعرفكم بشيء تعرفونه .

قالوا : ما هو ؟

قال : أنشدكم بالتوراة التي أنزل الله تعالى على موسى عليه السلام ، هل تعلمون أني جئتكم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبينكم التوراة فقلتم في مجلسكم هذا يا ابن مسلمة إن شئت أن نغديك غديناك ، وإن شئت نهودك هودناك ، فقلت : غدوني ولا تهودوني ، والله لا أتهود أبدا ، فغديتموني في صحفة ، لكأني أنظر إليها ، فقلتم لي : ما يمنعك من ديننا إلا أنه دين يهود ، لكأنك تريد الحنيفية التي سمعت بها ، أما إن أبا عامر الراهب ليس بصاحبها ، إنما صاحبها الضحوك القتال في عينيه حمرة ، ويأتي من قبل اليمن ، ويركب البعير ، ويلبس الشملة ، ويحتزئ بالكسرة ، وسيفه على عاتقه ، ليس معه آية ، ينطق بالحكمة ، والله ليكونن بقريتكم هذه سلب ومثل وقتل .

قالوا : اللهم نعم ، قد قلنا ذلك ، ولكن ليس به .

قال محمد بن مسلمة : إذن قد عرفتم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أرسلني إليكم ، يقول لكم : قد نقضتم الذي جعلت لكم بما هممتم من الغدر بي ، وأخبرهم بما كانوا ارتأوا من الرأي وظهور عمرو بن جحاش لطرح [ ص: 495 ] الصخرة ، فأسكتوا ، فلم يقولوا حرفا ، ويقول : اخرجوا من بلدي فقد أجلتكم عشرا فمن بقي بعد ذلك ضربت عنقه .


وساق الحديث إلى أن قال :

فقال حيي : أنا أرسل إلى محمد أنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا فليصنع ما بدا له .

وقال سلام بن مشكم : منتك نفسك يا حيي بالباطل ، إني والله لولا أن أسفه رأيك وأن يزرى بك لاعتزلتك بمن أطاعني من اليهود ، فلا تفعل يا حيي ، فوالله إنك لتعلم ، ونعلم معك ، أنه لرسول الله ، وإن صفته عندنا ، وإن لم نتبعه حسدناه حين خرجت النبوة من بني هارون ، فتعال فلتقبل ما أعطانا من الأمن ونخرج من بلاده ، فقد عرفت أنك خالفتني في الغدر به ، فإذا كان أوان الثمر جئنا ، أو جاءه من جاء منا إلى ثمره فباعها وصنع ما بدا له ثم انصرف إلينا ، فكأنما لم نخرج من بلادنا إذا كانت أموالنا بأيدينا .


وساق الحديث إلى أن ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم .

وقالوا : نحن نعطيك الذي سألت ونخرج من بلادك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أقبله اليوم ، ولكن اخرجوا منها ، ولكم ما حملت الإبل واللأمة .

فقال سلام بن مشكم : اقبل ، ويحك ، قبل أن يعمل شرا من هذا .

قال حيي : ما يكون شرا من هذا !

[ ص: 496 ] قال سلام : يسبي الذرية ، ويقتل المقاتلة .

فأبى حيي أن يقبل يوما أو يومين ، فلما رأى ذلك يامين بن عمير وأبو سعد بن وهب قال أحدهما لصاحبه : والله إنا لنعلم أنه لرسول الله ، فما ننتظر أن نسلم ، فنأمن على دمائنا وأموالنا ، فنزلا من الليل فأسلما وأحرزا أموالهما .


التالي السابق


الخدمات العلمية