الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه :

199 - حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن قال : ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة وثنا أبو عمرو بن حمدان قال : ثنا الحسن بن سفيان قالا : ثنا مسروق بن المرزبان الكندي قال : ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : ثنا محمد بن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حدثني سلمان حديثه من فيه إلي قال : كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها " جي " وكان أبي دهقان قريته ، وكنت من [ ص: 259 ] أحب الخلق إليه ، فمن حبه إياي حبسني في بيت كما تحبس الجارية ، وكنت قد اجتهدت في دار المجوسية حتى كنت قطن النار أوقدها ، لا أتركها تخبو ساعة ، اجتهادا في ديني ، وكان لأبي ضيعة في بعض عمله ، وكان يعالج بنيانا له في داره ، فدعاني فقال : أي بني إنه قد شغلني بنياني كما ترى ، فانطلق إلى ضيعتي هذه ولا تحتبس عني ، فإنك إن احتبست علي كنت أهم إلي من ضيعتي ومن كل شيء ، وشغلتني عن كل شيء من أمري ، قال : فخرجت أريد الضيعة التي بعثني إليها قال : فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ، ورغبت في أمرهم ، وقلت : هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه ، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس ، وتركت ضيعة أبي ، فلم آتها ، ثم قلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام ، قال : ثم رجعت إلى أبي ، وقد بعث في طلبي ، فشغلته عن عمله كما قال ، فلما جئته قال : يا بني أين كنت ؟ ألم أكن أعهد إليك ما عهدت ؟ قال : قلت : يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس ، قال : أي بني ليس في ذلك خير بل دينك ودين آبائك خير ، قلت : كلا والله ، إنه لخير من ديننا ، قال : فخافني ؛ ، فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيت ، قال : وبعثت إلى النصارى فقلت : إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني ، قال : فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى ، قال : فأخبروني ، قال : قلت : إذا قضوا حوائجهم وأرادوا [ ص: 260 ] الرجعة إلى بلادهم فآذنوني ، فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أعلموني بهم ، قال : فألقيت الحديد عن رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ، فلما قدمتها قلت : من أفضل أهل هذا الدين علما ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة ، قال : فجئته فقلت له : إني قد رغبت في هذا الدين ، وأكون معك أخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك ، قال : فافعل ، فادخل ، فدخلت معه قال : وكان رجل سوء يأمر بالصدقة ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا له شيئا منها اكتنزه لنفسه ، ولم يعط المساكين شيئا ، فأعلمتهم بذلك بعد موته ، فقالوا لي : وما علمك بذلك ؟ قلت : أنا أدلكم على كنزه ، فقالوا لي : دلنا عليه ، قال : فأريتهم موضعه ، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا ، فلما رأوها قالوا : لا والله لا ندفنه ، فصلبوه ، ثم رموه بالحجارة ، ثم جاؤوا برجل آخر ، قال : فجعلوه مكانه .

قال : يقول سلمان : فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه ، قال : فحببته حبا لم أحب شيئا كان مثله ، فأقمت معه زمانا ، ثم حضرته الوفاة ، فقلت : يا فلان إني قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحب شيئا كان قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر الله ، فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني ؟ قال : أي بني ، والله ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس وبدلوا كثيرا مما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان ، وهو على ما كنت عليه ، فالحق به ، قال : فلما غيب لحقت بصاحب الموصل ، فقلت : يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره ، فقال : أقم عندي قال : فأقمت عنده ، فوجدته خير [ ص: 261 ] رجل على أمر صاحبه ، قال : فلم يلبث أن مات ، فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصي بي ؟ قال : إني والله ما أعلم رجلا على ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان ، فالحق به ، فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين ، فجئته فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي ، فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجدته على أمر صاحبه ، فأقمت معه ، فوجدته خير رجل ، فوالله ما لبث إذ نزل به الموت ، فلما حضرته الوفاة قلت : يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصي بي ؟ وما تأمرني به ؟ قال : يا بني ما أعلم أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم ، فإنه على مثل أمرنا ، فإن أحببت فأته ، فإنه على أمرنا ، قال : فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري ، فقال : أقم ، فأقمت عنده ، فوجدته خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم لم أر أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا منه قال : ثم اكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ، قال : ثم نزل به أمر الله ، فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان إني كنت مع فلان ، فأوصى بي أن آتي فلانا ، ثم أوصى بي فلان إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصي بي ؟ وما تأمرني ؟ قال : أي بني والله ما أعلم أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكن قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم الخليل ، يخرج بأرض العرب ، مهاجره إلى أرض بين حرتين ، بها نخل ، به علامات لا تخفى ، يأكل الهدية ولا يأكل [ ص: 262 ] الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد ، فافعل قال : ثم إنه مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ، ثم مر بي نفر من كلب تجار ، فقلت لهم : تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه ، قال : فأعطيتهم إياها ، وحملوني معهم ، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني ، فباعوني من رجل يهودي عبدا ، فكنت عنده ، ورأيت النخل ، فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحقق لي في نفسي ، فبينا أنا كذلك إذ قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة ، فابتاعني منه ، فحملني إلى المدينة ، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام ، لا أسمع له بذكر لما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة ، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيها بعض عمله ، وسيدي جالس تحتي ، إذ أقبل ابن عم له ، فوقف عليه ، فقال : يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن يجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي ، قال : فلما سمعتها أخذتني العروراء حتى ظننت أني ساقط على سيدي ، فلما نزلت عن النخلة ، جعلت أقول لابن عمه ذلك ، ما تقول ؟ قال : فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة ، ثم قال : ما لك ولهذا ؟ أقبل على عملك ، قلت : لا شيء أردت أن أستثبته مما قال ، فكان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ، ثم [ ص: 263 ] ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء ، فدخلت عليه ، فقلت له : إنه بلغني أنك رجل صالح ، معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم ، ثم قربته إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : كلوا ، وأمسك يده فلم يأكل قال : فقلت في نفسي : هذه واحدة ، ثم انصرفت عنه ، فجمعت شيئا ، ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ثم جئته ، فقلت له : إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها ، قال : فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه ، فقلت في نفسي : هاتان ثنتان ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه ، عليه شملتان له ، هو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ، ثم استدبرته أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني استدبرته عرف أني أستثبته في شيء وصف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فانكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحول ، فتحولت بين يديه ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أن يسمع ذلك أصحابه ، ثم قال لي : كاتب يا سلمان ، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة بالفقير وبأربعين أوقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعينوا أخاكم ، فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية ، والرجل بخمسة عشر ، والرجل بقدر ما عنده ، حتى جمعوا ثلاثمائة ودية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب يا سلمان ففقرهما ، فإذا فرغت [ ص: 264 ] ، فآذني حتى أكون أنا الذي أضعها بيدي قال : ففقرت لها ، وأعانني أصحابي حتى فرغت ، فجئته فأخبرته فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها ، فجعلنا نقرب له الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغنا ، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة ، فأديت النخل وبقي علي المال ، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ، فعل الفارسي المكاتب ؟ قال : فدعيت له ، فقال : خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان ، قال : قلت : فأين تقع هذه يا رسول الله مما علي ؟ قال : خذها فإن الله سيؤدي بها عنك ، فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية ، فأوفيتهم حقهم وعتق سلمان ، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حرا ، ثم لم يفتني مشهد " .
[ ص: 265 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية