الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
239 - حدثنا حبيب بن الحسن قال ثنا محمد بن يحيى المروزي قال ثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال ثنا إبراهيم بن سعد قال حدثني صالح بن كيسان قال : قال ابن شهاب أخبرني عبيد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن عباس : أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام وبعث بكتابه مع دحية الكلبي ، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر ، فدفعه دحية الكلبي إلى عظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر ، وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله عز وجل لما أبلاه الله ، فلما جاء قيصر بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه : التمسوا لي هاهنا أحدا من قومه لنسأله عن هذا الرجل .

قال عبد الله بن العباس : فأخبرني أبو سفيان أنه كان جالسا في رجال من قريش قدموا تجارا في المدة التي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو سفيان : فوجدنا رسول قيصر ببعض الشام ، فانطلق بي وبأصحابي حتى قدمنا إيلياء فأدخلنا عليه ، فإذا هو جالس في مجلس ملكه ، وعليه التاج ، وإذا حوله عظماء الروم ، فقال لترجمانه : سلهم أيهم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قال أبو سفيان : فقلت : أنا أقربهم نسبا إليه ، [ ص: 344 ] قال : أي قرابة بينك وبينه ؟ قلت : هو ابن عمي ، وليس في الركب يومئذ من بني عبد مناف غيري ، قال قيصر : ادنوه مني ، ثم أمر بأصحابي فجعلوا خلف ظهري عند كتفي ، ثم قال لترجمانه : قل لأصحابه إني سائل هذا الرجل عن الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذب فكذبوه ، قال أبو سفيان : والله لولا الحياء يومئذ من أن يأثروا عني الكذب لكذبت عنه حين سألني ، ولكن استحييت أن يأثروا عني الكذب فصدقته عنه ، ثم قال لترجمانه : كيف حسب هذا الرجل فيكم ؟ قلت : هو فينا ذو حسب قال : فهل قال هذا القول أحد منكم قبله ؟ قلت : لا ، قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا ، قال : فهل في آبائه من ملك ؟ قلت : لا قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم ، قال : فيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : بل يزيدون ، قال : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن دخل فيه ؟ قلت : لا ، قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا ، ونحن الآن منه في مدة نخاف أن يغدر ، قال أبو سفيان : ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا أنتقصه به لا أخاف أن يؤثر غيرها ، قال : فهل قاتلتموه وقاتلكم ؟ قلت : نعم ، قال : فكيف كانت حربكم وحربه ؟ قلت : كانت دولا وسجالا ، يدال علينا مرة وندال عليه الأخرى ، قال : فماذا يأمركم به ؟ قلت : يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والكفاف والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة .

فقال لترجمانه : حين قلت ذلك كله : قل له إني سألتك عن نسبه فيكم ؟ فزعمت : أنه ذو نسب ، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها ، وسألتك : هل قال هذا القول أحد منكم قبله ؟ فزعمت : أن لا ، فقلت : لو [ ص: 345 ] كان أحد منكم قال هذا القول قبله : قلت رجل يأتم بقول قيل قبله ، وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله عز وجل ، وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان من آبائه ملك فقلت ملك آبائه وسألتك : أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل ، وسألتك : هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك : هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فزعمت : أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالطه بشاشة القلوب لا يسخطه أحد ، وسألتك : هل قاتلتموه وقاتلكم ؟ فزعمت : أن قد فعل وأن حربكم وحربه دول يدال عليكم مرة ويدال عليه أخرى ، وكذلك الرسل تبتلى ، وتكون لها العاقبة ، وسألتك : فماذا يأمركم به ؟ فزعمت : أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ، وهذه صفة نبي قد كنت أعلم أنه خارج ، ولكن لم أظن أنه منكم ، وإن يكن ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ، ولو أرجو أني أخلص إليه لتجشمت حتى ألقاه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه .

قال أبو سفيان ، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به فقرئ فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فعليك إثم [ ص: 346 ] الإريسيين يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

قال أبو سفيان : فلما قضى مقالته علت أصوات الروم الذين حوله من عظماء الروم ، وكثر لغطهم ، ولا أدري ما قالوا ، وأمر بنا فأخرجنا ، فلما أن خرجنا من عنده مع أصحابي وخلوت بهم قلت لهم : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة هذا ملك بني الأصفر يخافه .

قال أبو سفيان والله ما زلت متيقنا دليلا أن أمره سيظهر حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره .

قال أبو سفيان في رواية : وحضرته يتحادر جبينه عرقا من كرب الصحيفة التي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله الآية . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق الآية . قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله تعالى : صاغرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية