الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
238 - حدثنا سليمان بن أحمد ثنا علي بن عبد العزيز وثنا أبي قال ثنا محمد بن محمد بن عقبة الشيباني ومحمد بن موسى الحلواني . وثنا أبو حامد بن جبلة ثنا محمد بن إسحاق السراج قال ثنا مكرم بن محرز الكعبي الخزاعي قال حدثني أبي محرز بن مهدي عن حزام بن هشام عن أبيه هشام عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة خرج منها مهاجرا هو وأبو بكر ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهم الليثي عبد الله بن أريقط ، فمروا على [ ص: 338 ] خيمتي أم معبد الخزاعية ، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء القبة ، ثم تسقي وتطعم ، فسألوها لحما وتمرا ليشتروا منها ، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك ، وكان القوم مرملين مسنتين ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة ، فقال : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ قالت : شاة خلفها الجهد عن الغنم ، قال : بها من لبن ؟ قالت : هي أجهد من ذلك ، قال : أفتأذنين لي أن أحلبها ؟ قالت : بأبي أنت وأمي ، نعم ، إن رأيت بها حلبا فاحلبها ، فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ضرعها بيده ، وسمى الله عز وجل ، ودعا لها في شاتها ، فتفاجت عليه ودرت واجترت ، فدعا بإناء يريض الرهط ، فحلب فيه ثجا ، حتى علاه البهاء ، ثم سقاها حتى رويت ، وسقى أصحابه حتى رووا ، ثم شرب آخرهم صلى الله عليه وسلم ، ثم أراضوا ، ثم حلب ثانيا بعد بدء حتى ملأ الإناء ، ثم غادره عندها وبايعها ، ثم ارتحلوا عنها ، فقال : ما لبثت إذ جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا ، مخهن قليل ، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال : من أين لك هذا ؟ والشاة عازب حائل ، ولا حلوبة في البيت ، قالت : لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك ، من حاله كذا وكذا ، فقال : صفيه لي يا أم معبد ، قالت ، " رأيت رجلا ظاهر الوضاءة ، أبلج الوجه ، حسن الخلق ، لم تعبه ثجلة ، ولم تزر به صعلة ، وسيم قسيم ، في عينيه دعج ، وفي أشفاره عطف ، وفي صوته صهل ، وفي [ ص: 339 ] عنقه سطع ، وفي لحيته كثاثة ، أزج أقرن ، إن صمت فعليه الوقار ، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء ، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد ، وأحلاه وأحسنه من قريب ، حلو المنطق ، فصل لا نذر ولا هذر ، كأن منطقه خرزات نظم تحدرن ، ربعة ، لا بائن من طول ولا تقتحمه عين من قصر ، غصن بين غصنين ، هو أنظر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا ، له رفقاء يحفون به ، إن قال أنصتوا لقوله ، وإن أمر تبادروا إلى أمره ، محفود محشود ، لا عابس ولا معتد .

قال أبو معبد : هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا ، فأصبح صوت بمكة عاليا ، يسمعون ولا يدرون من صاحبه :


جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمتي أم معبد     هما نزلاها بالهدى واهتدت به
فقد فاز من أمسى رفيق محمد     فيال قصي ما زوى الله عنهم
به من فعال لا تجازى سؤدد     ليهن بني كعب مقام فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد     سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد     دعاها بشاة حائل فتحلبت
عليه صريحا صرة الشاة مزبد     فغادرها رهنا لديها لحالب
يرددها في مصدر ، ثم مورد



وفي رواية أبي عمرو بن حمدان : وأصبح صوت بالمدينة بين السماء والأرض يسمعون ولا يرون من يقوله .

[ ص: 340 ] وفي الرواية الأولى : فلما سمع حسان بن ثابت الأنصاري الهاتف شب يجاوب الهاتف وهو يقول :


لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم     وقدس من يسري إليه ويغتدي
ترحل عن قوم فضلت عقولهم     وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم     فأرشدهم ، من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا     عمايتهم ، هاد به كل مهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب     ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله     ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب     فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده     بصحبته ، من يسعد الله يسعد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم     ومقعدها للمؤمنين بمرصد



قال أبو أحمد بن بشر بن محمد ثنا عبد الملك بن وهب : بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم . ورواه أبو أمية محمد بن إبراهيم بن بشر بن محمد مثله .

حدثنا سليمان بن أحمد إملاء وقراءة قال ثنا علي بن عبد العزيز قال قال أبو عبيد القاسم بن سلام : البرزة من النساء : الجلدة ، تظهر للناس ويجلس إليها القوم .

وقوله : كان القوم مرملين مسنتين : المرمل : الذي قد نفد زاده ، وقوله : مسنتين : هم الذين أصابتهم السنة ، وهي الأزمة والمجاعة .

قال أبو عبيد : إذا قال : يال فلان : فذلك في الاستغاثة بالفتح ، ويال [ ص: 341 ] المسلمين ، وإذا أراد التعجب والنداء قال : يال فلان بالكسر .

وقوله : كسر الخيمة : هو مؤخرها ، وفيه لغتان كسر وكسر ، وقال بعضهم الكسر هو في مقدم الخيمة .

وقوله : فتفاجت عليه يعني : فرجت رجليها كما تفعل التي تحلب .

وقوله : بإناء يريض الرهط : أي ينهنههم مما يجتريهم لكثرته إذا شربوه .

وقوله فحلب فيها ثجا : يعني سيلا ، وكذلك كل سيل ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الحج فقال : العج والثج ، فالعج : رفع الصوت بالتلبية ، والثج : سيل دماء الهدي .

وقولها أراضوا : أصل هذا في صب اللبن على اللبن ، ومعنى قولها أراضوا : هو شرب لبن صب على لبن .

وقوله فغادره عندها : يقول : تركه .

وقوله : يسوق أعنزا تساوكن هزلا : والتساوك المشي الضعيف .

وقوله : والشاة عازب : يعني قد عزبن عن البيت فخرجن إلى المرعى .

وقوله : الحيل التي ليست بحوامل .

وقولهما في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : ظاهر الوضاءة : يعني الجمال ، والوضيء : الجميل .

والمتبلج الوجه : الذي فيه إضاءة ونور . رجل متبلج وأبلج قال الأعشى :


حكمتموه فقضى بينكم     أبلج مثل القمر الباهر



وقولها : لم تعبه ثجلة : ومعناه عظم البطن ، تقول : فليس هو كذلك . [ ص: 342 ] وقولها : لم تزر به صعلة : تريد صغر الرأس ، يقال : رجل صعل .

وقولها : وسيم قسيم : كلاهما هو الجمال ، قال : وقال الشاعر يمدح قوما :


كأن دنانير على قسماتهم     وإن كان قد شف الوجوه لقاء



يقول : وإن كان لقاء الحرب قد شفهم ، فإن جماله على حاله ، يريد بالقسمات : الوجوه الحسان .

وقولها : في عينيه دعج : وهو سواد الحدقة ، يقال : رجل أدعج وامرأة دعجاء .

وقولها : في أشفاره عطف : كان بعض الناس يظنها معطوفة ، وأنا أظنها : وطفا ، وكذلك كل مستطيل مسترسل ، وأيضا السحابة الدانية من الأرض وطف .

وقولها : في صوته صهل : إنه صحل ، وهو شبيه بالبحح ، وليس بالشديد منه ، ولكنه حسن ، وبذلك توصف الظباء .

وقولها : في عنقه سطع : هو الطول ، يقال منه : رجل أسطع وامرأة سطعاء ، وهذا مما يمدح به الناس .

وقولها : أزج : هو المقوس الحاجبين ، والأقرن : هو الذي التقى حاجباه بين عينيه .

وقولها : منطقه لا نزر ولا هذر : فالنزر : القليل ، والهذر : الكثير ، تقول : قصد بين ذلك .

وقولها : لا تقتحمه عين من قصر : تقول لا تزدريه فتنبذه ، ولكن تقبله وتهابه .

[ ص: 343 ] وقولها : محفود محشود : فالمحفود : المخدوم ، قال الله عز وجل : بنين وحفدة ومحشود : هو الذي قد حشده أصحابه وحفوا حوله وأطافوا به .

التالي السابق


الخدمات العلمية