الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
193 - حدثنا سليمان بن أحمد قال : ثنا محمد بن عمر بن خالد الحراني قال : ثنا أبي قال : ثنا ابن لهيعة قال : ثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن ، عن عروة بن الزبير في خروج جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة ، قال : فبعثت قريش في آثارهم عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص السهمي وأمروهما أن يسرعا السير حتى يسبقاهم إلى النجاشي ، ففعلا ، فقدما على النجاشي فدخلا عليه ، فقالا له : " إن هذا الرجل الذي بين أظهرنا ، وأفسد فينا ، تناولك ليفسد عليك دينك ، وملكك وأهل سلطانك ، ونحن لك ناصحون ، وأنت لنا عيبة صدق ، تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف ، ويأمن تاجرنا عندك ، فبعثنا قومنا إليك لننذرك فساد ملكك ، وهؤلاء نفر من أصحاب الرجل الذي خرج فينا ، ونخبرك بما نعرف من خلافهم الحق ، أنهم لا يشهدون أن عيسى ابن مريم ، أحسبه قال : (إلها) ولا يسجدون لك إذا دخلوا عليك ، فادفعهم إلينا فلنكفيكهم .

فلما قدم جعفر وأصحابه وهم على ذلك من الحديث وعمرو وعمارة عند النجاشي ، وجعفر وأصحابه على ذلك الحال ، قال : فلما رأوا أن الرجلين قد سبقا ودخلا ، صاح جعفر على الباب : يستأذن حزب الله ، فسمعها النجاشي ، فأذن لهم ، فدخلوا عليه ، فلما دخلوا عليه وعمرو وعمارة عند النجاشي ، قال : أيكم صاح عند الباب ؟ فقال جعفر : أنا هو ، فأمره فعاد لها ، فلما دخلوا سلموا تسليم أهل الإيمان ، ولم يسجدوا له ، فقال عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد : ألم نبين لك خبر القوم ؟ فلما سمع النجاشي ذلك أقبل عليهم ، فقال : أخبروني أيها الرهط ما جاء بكم ؟ وما [ ص: 244 ] شأنكم ؟ ولم أتيتموني ولستم بتجار ، ولا سؤال ؟ وما نبيكم هذا الذي خرج ؟ وأخبروني ما لكم لم لا تحيوني كما يحييني من أتاني من أهل بلدكم ؟ وأخبروني ما تقولون في عيسى ابن مريم ؟

فقام جعفر بن أبي طالب وكان خطيب القوم فقال : إنما كلامي ثلاث كلمات ، إن صدقت فصدقني ، وإن كذبت فكذبني ، فأمر أحدا من هذين الرجلين فليتكلم ولينصت الآخر ، قال عمرو : أنا أتكلم ، قال النجاشي : أنت يا جعفر فتكلم قبله .

فقال جعفر : إنما كلامي ثلاث كلمات ، سل هذا الرجل أعبيد نحن أبقنا من أربابنا ؟ فارددنا إلى أربابنا .

فقال النجاشي : أعبيد هم يا عمرو ؟

قال عمرو : بل أحرار كرام .

قال جعفر : سل هذا الرجل : هل أهرقنا دما بغير حقه ؟ فادفعنا إلى أهل الدم .

فقال : هل أهرقوا دما بغير حقه ؟

فقال : ولا قطرة واحدة من دم .

ثم قال جعفر : سل هذا الرجل : أخذنا أموال الناس بالباطل فعندنا قضاء ؟

فقال النجاشي : يا عمرو إن كان على هؤلاء قنطار من ذهب فهو علي .

فقال عمرو : ولا قيراط .

فقال النجاشي : ما تطالبونهم به ؟ [ ص: 245 ]

قال عمرو : فكنا نحن وهم على دين واحد وأمر واحد فتركوه ، ولزمناه .

فقال النجاشي : ما هذا الذي كنتم عليه فتركتموه وتبعتم غيره ؟

فقال جعفر : أما الذي كنا عليه فدين الشيطان وأمر الشيطان ، نكفر بالله ونعبد الحجارة ، وأما الذي نحن عليه فدين الله عز وجل ، نخبرك : أن الله بعث إلينا رسولا كما بعث إلى الذين من قبلنا ، فأتانا بالصدق والبر ، ونهانا عن عبادة الأوثان فصدقناه وآمنا به واتبعناه ، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا وأرادوا قتل النبي الصادق ، وردنا في عبادة الأوثان ، ففررنا إليك بديننا ودمائنا ، ولو أقرنا قومنا لاستقررنا ، فذلك خبرنا .

وأما شأن التحية : فقد حييناك بتحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي يحيي به بعضنا بعضا ، أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحية أهل الجنة السلام ، فحييناك بالسلام ، وأما السجود فمعاذ الله أن نسجد إلا لله ، وأن نعدلك بالله .

وأما في شأن عيسى ابن مريم : فإن الله عز جل أنزل في كتابه على نبينا أنه رسول قد خلت من قبله الرسل ، ولدته الصديقة العذراء البتول الحصان ، وهو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، وهذا شأن عيسى ابن مريم .

فلما سمع النجاشي قول جعفر أخذ بيده عودا ، ثم قال لمن حوله : صدق هؤلاء النفر ، وصدق نبيهم ، والله ما يزيد عيسى ابن مريم على ما يقول هذا الرجل ولا وزن هذا العود ، فقال لهم النجاشي : امكثوا فإنكم سيوم - والسيوم : الآمنون - قد منعكم الله ، وأمر لهم بما يصلحهم ، فقال النجاشي : أيكم أدرس للكتاب الذي أنزل على نبيكم ؟ قالوا : جعفر ، فقرأ عليهم جعفر سورة مريم ، فلما سمعها عرف أنه الحق ، وقال النجاشي : [ ص: 246 ] زدنا من هذا الكلام الطيب ، ثم قرأ عليه سورة أخرى ، فلما سمعها عرف الحق ، وقال : صدقتم وصدق نبيكم صلى الله عليه وسلم ، أنتم والله صديقون ، امكثوا على اسم الله وبركته آمنين ممنوعين ، وألقي عليهم المحبة من النجاشي .

فلما رأى ذلك عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص سقط في أيديهما ، وألقى الله بين عمرو وعمارة العداوة في مسيرهما قبل أن يقدما على النجاشي ليدركا حاجتهما التي خرجا لها من طلب المسلمين ، فلما أخطأهما ذلك رجعا بشر ما كانا عليه من العداوة وسوء ذات البين ، فمكر عمرو بعمارة ، فقال : يا عمارة ، إنك رجل جميل وسيم ، فأت امرأة النجاشي فتحدث عندها إذا خرج زوجها ، تصيبها فتعيننا على النجاشي ، فإنك ترى ما وقعنا فيه من أمرنا لعلنا نهلك هؤلاء الرهط ، فلما رأى ذلك عمارة انطلق حتى أتى امرأة النجاشي ، فجلس إليها يحدثها ، وخالف عمرو بن العاص إلى النجاشي فقال : إني لم أكن أخونك في شيء علمته إذا طلعت عليه ، وإن صاحبي الذي رأيت لا يتمالك عن الزنا إذا هو قدر عليه ، وإنه قد خالف إلى امرأتك ، فأرسل النجاشي إلى امرأته ، فإذا هو عندها ، فلما رأى ذلك أمر به فنفخ في إحليله سحره ، ثم ألقي في جزيرة البحر فعاد وحشيا مع الوحش ، يرد ويصدر معها زمانا ، حتى ذكر لعشيرته ، فركب أخوه ، فانطلق معه بنفر من قومه ، فرصدوه حتى إذا ورد أوثقوه فوضعوه في سفينة ليخرجوا به ، فلما فعلوا به ذلك مات ، وأقبل عمرو إلى مكة قد أهلك الله صاحبه ومنع حاجته " .

التالي السابق


الخدمات العلمية