الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
566 - حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن عبدة المصيصي من كتابه وما أثبتناه إلا عنه قال ثنا صبيح بن عبد الله أبو محمد الفرغاني قال ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي عن جعفر بن محمد عن أبيه ، وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت :

كان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن بالطويل البائن ولا المشذب [ ص: 637 ] الذاهب - والمشذب : الطويل نفسه ، إلا إنه الطويل النحيف - ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالقصير المتردد ، فكان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده ، ولم يكن على ذلك يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولربما ماشى الرجلين الطويلين فيطولهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا فارقاه نسبا إلى الطول ، ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الربعة ، ويقول صلى الله عليه وسلم : " جعل الخير كله في الربعة " وكان لونه صلى الله عليه وسلم ليس بالأبيض الأمهق - والأمهق : الشديد البياض الذي لا يضرب بياضه إلى الشهبة - ولم يكن بالآدم ، وكان أزهر اللون - والأزهر : هو الأبيض الناصع البياض الذي لا يشوبه صفرة ولا حمرة ولا شيء من الألوان . وقد نعت بعض نعته بذلك ، ولكن إنما كان المشرب حمرة ما ضحى منه للشمس والرياح ، وما كان تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر ، لا يشك فيه أحد ممن وصفه بأنه أبيض أزهر ، فمن وصفه بأنه أبيض أزهر ، فعنى ما تحت الثياب فقد أصاب ، ومن وصف ما ضحى منه للشمس والرياح بأنه أبيض مشرب بحمرة فقد أصاب ، ولونه الذي لا يشك فيه البياض الأزهر ، وإنما الحمرة من قبل الشمس والرياح ، وكان عرقه في وجهه مثل اللؤلؤ ، أطيب من المسك الأذفر ، وكان صلى الله عليه وسلم رجل الشعر حسنه ، ليس بالسبط ولا الجعد القطط ، وكان إذا امتشط بالمشط كأنه حبك الرمال ، وكأنه المتون التي في الغدر إذا صفقتها الرياح ، وإذا نكته بالمرجل أخذ بعضه بعضا وتحلق حتى يكون متحلقا كالخواتيم ، وكان من أول أمره قد سدل ناصيته بين عينيه ، كما تسدل نواصي الخيل ، حتى جاءه جبرئيل عليه السلام بالفرق ففرق ، وكان شعره عليه السلام يضرب منكبيه ، وربما كان إلى شحمة [ ص: 638 ] أذنيه ، وكان ربما جعله غدائر تخرج الأذن اليمنى من بين غديرتين تكتنفانها ، وتخرج الأذن اليسرى من بين غديرتين تكتنفانها ، ينظر من كان يتأملهما من بين تلك الغدائر كأنهما توقد الكواكب الدرية بين سواد شعره ، وكان أكثر شيبه صلى الله عليه وسلم في الرأس ، في فودي رأسه - الفودان حرفا الفرق - كان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن ، وكان شيبه صلى الله عليه وسلم كأنه خيوط الفضة ، يتلألأ بين ظهري سواد الشعر الذي معه ، فإذا مس ذلك الشيب بصفرة - وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يفعل ذلك - صار كأنه خيوط الذهب يتلألأ بين ظهري سواد الشعر الذي معه . وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها ، وأنورهم لونا ، لم يصفه واصف قط بمعنى صفته إلا شبه وجهه بالقمر ليلة البدر ، يقول : هو أحسن في أعين الناس من القمر ، يعرف رضاه وغضبه في سرار وجهه ، كان صلى الله عليه وسلم إذا رضي أو سر فكأن وجهه المرآة ، وإذا غضب تلون وجهه صلى الله عليه وسلم واحمرت عيناه ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رضي كما وصفه صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه :


أمين مصطفى للخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام



فيقول الناس : كان صلى الله عليه وسلم كذلك ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرا ما ينشد قول زهير بن أبي سلمى :


لو كنت من شيء سوى بشر     كنت المنور ليلة البدر



فيقول من سمعه : كذلك كان صلى الله عليه وسلم .

وقالت عمته عاتكة بنت عبد المطلب بعدما سار من مكة مهاجرا فجزعت عليه . [ ص: 639 ]


عيني جودا بالدموع السواجم     على المصطفى كالبدر من آل هاشم
على المرتضى للبر والعدل والتقى     وللدين والدنيا مقيم المعالم
على الصادق الميمون ذي الحلم والنهى     وذي الفضل والداعي لخير التراجم



فشبهته بالبدر ، وقد نعتته بهذا النعت ووفقت له لما ألقى الله عز وجل من محبته في الصدور ، وإنها لعلى دين قومها ، وكان صلى الله عليه وسلم أجلى الجبين ، إذا طلع جبينه من بين الشعر أو اطلع من فلق أو عند طفل الليل ، أو اطلع وجهه على الناس يرى وجبينه كأنه ضوء السراج الموقد يتلألأ ، وكانوا يقولون : هو ختم قمر ، وكان صلى الله عليه وسلم سهل الخدين صلتهما - الصلت الخد ، هو : الأسيل الخد المستوي ، الذي لا يفوت بعض لحم بعضه بعضا - ليس بالطويل الوجه ولا بالمكلثم ، كث اللحية - والكث الكثير منابت الشعر - وكانت عنفقته صلى الله عليه وسلم بارزة ، فنيكاه حول العنفقة كأنهما بياض اللؤلؤ ، بأسفل عنفقته شعر منقاد حسنة يقع انقيادهما على شعر اللحية ، حتى يكون كأنه منها - والفنيكان مواضع الطعام حول العنفقة من جانبيها جميعا - وكان صلى الله عليه وسلم أحسن عباد الله عنقا ، لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر ، ما ظهر من عنقه للشمس والرياح فكأنه إبريق فضة ، مشرب ذهبا ، يتلألأ في بياض الفضة وحمرة الذهب ، وما غيبته الثياب من عنقه ، وما تحتها ، فكأنه القمر ليلة البدر ، وكان صلى الله عليه وسلم عريض الصدر موصول [ ص: 640 ] ما بين لبته إلى سرته بشعر منقاد كالقضيب لم يكن في صدره ولا بطنه شعر غيره ، وكان صلى الله عليه وسلم رحب الراحة سائل الأطراف كأن أصابعه قضبان الفضة وكانت كفه صلى الله عليه وسلم ألين من الخز ، وكأن كفه كف عطار ، طيبا ، مسها بطيب أو لم يمسها به ، يصافحه المصافح فيظل يومه يجد ريحها ، ويضعها على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان ، جميل ما تحت الإزار من الفخذين والساقين ، معتدل الخلق ، إذا مشى كأنما يتقلع ويتصبب في صبب ، يخطو تكفيا ، ويمشي الهوينا بغير تبختر ، يقارب الخطى والمشي على الهيبة ، يبدر القوم إذا مشى إلى خير أو سارع إليه ، ويسوقهم إذا لم يسارع إلى شيء مشيه الهوينا .

وكان يقول صلى الله عليه وسلم : أنا أشبه الناس بأبي آدم عليه السلام ، وكان إبراهيم عليه السلام أشبه الناس بي خلقا وخلقا .

آخر ما انتسخت من كتاب دلائل النبوة ، والحمد لله رب العالمين وصلواته على خير خلقه سيدنا محمد النبي وآله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا مباركا طيبا كما هو أهله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية