الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
" فصل في فرض الله - عز وجل - في كتابه واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - "

القرآن يوجب اتباع السنة :

أنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو العباس ، أنا الربيع ، قال : قال الشافعي - رحمه الله - تعالى : " وضع الله - جل ثناؤه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - من دينه وفرضه وكتابه - الموضع الذي أبان (جل ثناؤه ) أنه جعله علما لدينه بما افترض من طاعته ، وحرم من معصيته . وأبان فضيلته بما قرر : من الإيمان برسوله مع الإيمان به . فقال - تبارك وتعالى - : ( آمنوا بالله ورسوله ) . وقال تعالى : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع [ ص: 28 ] لم يذهبوا حتى يستأذنوه . ) فجعل دليل ابتداء الإيمان - الذي ما سواه تبع له - الإيمان بالله ، ثم برسوله - صلى الله عليه وسلم . فلو آمن به عبد ولم يؤمن برسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبدا ، حتى يؤمن برسوله (عليه السلام ) معه " .

قال الشافعي - رحمه الله - : " وفرض الله تعالى على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال في كتابه : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) . وقال تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . وقال تعالى : ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ) " . وذكر غيرها من الآيات التي وردت في معناها . قال : " فذكر الله تعالى الكتاب ، وهو القرآن وذكر الحكمة ، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وهذا يشبه ما قال (والله أعلم ) بأن القرآن ذكر ، وأتبعته الحكمة وذكر الله (عز وجل ) منته على خلقه بتعليمهم الكتاب ، والحكمة . فلم يجز (والله أعلم ) أن تعد الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ، وأن الله افترض طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحتم على الناس اتباع أمره . فلا يجوز أن يقال لقول : فرض إلا لكتاب الله ، ثم سنة رسول الله - صلى الله [ ص: 29 ] عليه وسلم - ، مبينة عن الله ما أراد دليلا على خاصه وعامه ، ثم قرن الحكمة بكتابه فأتبعها إياه ، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " . ثم ذكر الشافعي - رحمه الله - الآيات التي وردت في فرض الله (عز وجل ) طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم . منها : قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) . فقال بعض أهل العلم : أولو الأمر أمراء سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ وهكذا أخبرنا والله أعلم ، وهو يشبه ما قال والله أعلم - : أن من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف إمارة ، وكانت تأنف أن تعطي بعضها بعضا طاعة الإمارة ، فلما دانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطاعة ، لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمروا أن يطيعوا أولي الأمر الذين أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا طاعة مطلقة ، بل طاعة يستثنى فيها لهم وعليهم . قال تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ) . يعني إن اختلفتم في شيء ، وهذا إن شاء الله كما قال في أولي الأمر . لأنه يقول : ( فإن تنازعتم في شيء ) يعني (والله أعلم ) هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعتهم . ( فردوه إلى الله والرسول ) يعني (والله أعلم ) - إلى ما قال الله ، والرسول إن عرفتموه ، وإن لم تعرفوه سألتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه إذا وصلتم إليه ، أو من وصل إليه . لأن ذلك الفرض الذي لا منازعة لكم فيه لقول الله - عز وجل - : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن ) [ ص: 30 ] ( يكون لهم الخيرة من أمرهم ) . ومن تنازع ممن بعد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد الأمر إلى قضاء الله ، ثم إلى قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء نصا فيهما ، ولا في واحد منهما - ردوه قياسا على أحدهما .

وقال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) الآية .

قال الشافعي : " نزلت هذه الآية فيما بلغنا - والله أعلم - في رجل خاصم الزبير رضي الله عنه في أرض ،
فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بها للزبير رضي الله عنه ، وهذا القضاء سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا حكم منصوص في القرآن . وقال - عز وجل - : ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ) ، والآيات بعدها . فأعلم الله الناس أن دعاءهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحكم بينهم ، دعاء إلى حكم الله ، وإذا سلموا لحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنما سلموا لفرض الله " . وبسط الكلام فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية