الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو العباس ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، قال : " قال الله - تبارك وتعالى - : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) الآية ، ودلت السنة على [أن ] الوضوء من الحدث . وقال الله - عز وجل - : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) الآية . فكان الوضوء عاما في كتاب الله (عز وجل ) من الأحداث ، وكان أمر الله الجنب بالغسل من الجنابة ، دليلا (والله أعلم ) على : أن لا يجب غسل إلا من جنابة ، إلا أن تدل على غسل واجب : فنوجبه بالسنة : بطاعة الله في الأخذ بها . ودلت السنة على وجوب الغسل من الجنابة ، ولم أعلم دليلا بينا على أن يجب غسل غير الجنابة الوجوب الذي لا يجزئ غيره . وقد روي في غسل يوم الجمعة شيء ، فذهب ذاهب إلى غير ما قلنا ، ولسان العرب واسع " .

[ ص: 52 ] ثم ذكر ما روي فيه ، وذكر تأويله ، وذكر السنة التي دلت على وجوبه في الاختيار ، و[في ] النظافة ، ونفى تغير الريح عند اجتماع الناس ، وهو مذكور في كتاب المعرفة .

* * *

وفيما أنبأني أبو عبد الله (إجازة ) عن الربيع ، قال : قال الشافعي : (رحمه الله تعالى ) : " قال الله تبارك وتعالى : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) الآية . فأبان : أنها حائض غير طاهر ، وأمرنا : أن لا نقرب حائضا حتى تطهر ، ولا إذا طهرت حتى تتطهر بالماء ، وتكون ممن تحل لها الصلاة " .

وفي قوله - عز وجل - : ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) ، قال الشافعي : " قال بعض أهل العلم بالقرآن : فأتوهن من حيث أمركم الله أن تعتزلوهن يعني في مواضع الحيض . وكانت الآية محتملة لما قال ، ومحتملة : أن اعتزالهن : اعتزال جميع أبدانهن ، ودلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : على اعتزال ما تحت الإزار منها ، وإباحة ما فوقها " .

[ ص: 53 ] قال الشافعي : " وكان مبينا في قول الله - عز وجل - : ( حتى يطهرن ) : أنهن حيض في غير حال الطهارة ، وقضى الله على الجنب : أن لا يقرب الصلاة حتى يغتسل ، فكان مبينا : أن لا مدة لطهارة الجنب إلا الغسل ، ولا مدة لطهارة الحائض إلا ذهاب الحيض ، ثم الغسل : لقول الله - عز وجل - : ( حتى يطهرن ) ، وذلك : انقضاء الحيض : ( فإذا تطهرن ) ، يعني : بالغسل ؛ لأن السنة دلت على أن طهارة الحائض : الغسل ، ودلت على بيان ما دل عليه كتاب الله : من أن لا تصلي الحائض " ، فذكر حديث عائشة (رضي الله عنها ) ، ثم قال : " وأمر النبي (صلى الله عليه وسلم ) عائشة (ضي الله عنها ) - : " أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " - : يدل على أن لا تصلي حائضا ؛ لأنها غير طاهر ما كان الحيض قائما . ولذلك قال الله - عز وجل - : ( حتى يطهرن ) " .

قال الشافعي : " قال الله - تبارك وتعالى - : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) الآيتين . فلما لم يرخص الله في أن تؤخر الصلاة [ ص: 54 ] في الخوف ، وأرخص : أن يصليها المصلي كما أمكنته رجالا وركبانا وقال : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) ، وكان من عقل الصلاة من البالغين ، عاصيا بتركها : إذا جاء وقتها وذكرها ، [وكان غير ناس لها ] ، وكانت الحائض بالغة عاقلة ، ذاكرة للصلاة ، مطيقة لها ، وكان حكم الله : أن لا يقربها زوجها حائضا ، ودل حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : على أنه إذا حرم على زوجها أن يقربها للحيض ، حرم عليها أن تصلي - : كان في هذا دليل [على ] أن فرض الصلاة في أيام الحيض زائل عنها ، فإذا زال عنها - وهي ذاكرة عاقلة مطيقة - : لم يكن عليها قضاء الصلاة . وكيف تقضي ما ليس بفرض عليها : بزوال فرضه عنها ؟ ! وهذا ما لم أعلم فيه مخالفا " .

* * *

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ (رحمه الله ) ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، أنا الربيع بن سليمان ، قال : قال الشافعي : " ومما نقل بعض من سمعت منه - : من أهل العلم - : أن الله (عز وجل ) أنزل فرضا في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس ، فقال : ( يا أيها المزمل قم الليل [ ص: 55 ] إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا ) أو ( زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . ) ثم نسخ هذا في السورة معه ، فقال : ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ) قرأ إلى : ( وآتوا الزكاة ) . قال الشافعي : ولما ذكر الله (عز وجل ) بعد أمره بقيام الليل : نصفه إلا قليلا ، أو الزيادة عليه ، فقال : ( أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ) ، فخفف ، فقال : ( علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه ) : - كان بينا في كتاب الله (عز وجل ) نسخ قيام الليل ونصفه ، والنقصان من النصف ، والزيادة عليه - : بقوله عز وجل : ( فاقرؤوا ما تيسر منه ) . ثم احتمل قول الله عز وجل : ( فاقرؤوا ما تيسر منه ) ، معنيين : أحدهما : أن يكون فرضا ثابتا ، لأنه أزيل به فرض غيره . (والآخر ) : أن يكون فرضا منسوخا : أزيل بغيره ، كما أزيل به غيره . وذلك لقول الله تعالى : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ) الآية [ ص: 56 ] واحتمل قوله : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ) : أن يتهجد بغير الذي فرض عليه : مما تيسر منه : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين ، فوجدنا سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس ، فصرنا : إلى أن الواجب الخمس ، وأن ما سواها : من واجب : من صلاة ، قبلها - منسوخ بها ، استدلالا بقول الله - عز وجل - : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ) ، فإنها ناسخة لقيام الليل ، ونصفه ، وثلثه ، وما تيسر . ولسنا نحب لأحد ترك ، أن يتهجد بما يسره الله عليه : من كتابه ، مصليا [به ] ، وكيفما أكثر فهو أحب إلينا " . ثم ذكر حديث طلحة بن عبيد الله ، وعبادة بن الصامت ، في الصلوات الخمس .

أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، ثنا أبو العباس ، أنا الربيع ، قال : قال لنا الشافعي - رحمه الله . فذكر معنى هذا بلفظ آخر ، ثم قال : " ويقال : نسخ ما وصفت المزمل ، بقول الله - عز وجل - : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) ، ودلوك الشمس : زوالها ( إلى غسق الليل ) : العتمة ، ( وقرآن الفجر ) : الصبح ، ( إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به [ ص: 57 ] نافلة لك ، ) فأعلمه أن صلاة الليل نافلة لا فريضة ، وأن الفرائض فيما ذكر : من ليل أو نهار . قال الشافعي : ويقال : في قول الله - عز وجل - : ( فسبحان الله حين تمسون ) : المغرب ، والعشاء ( وحين تصبحون ) : الصبح ، ( وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا ) : العصر ، ( وحين تظهرون ) : الظهر . قال الشافعي : وما أشبه ما قيل من هذا ، بما قيل ، والله أعلم " .

* * *

وبه قال : قال الشافعي : " أحكم الله (عز وجل ) لكتابه : أن ما فرض - : من الصلوات - موقوت ، والموقوت (والله أعلم ) : الوقت الذي نصلي فيه ، وعددها . فقال - جل ثناؤه - : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) .

* * *

وبهذا الإسناد [قال ] : قال الشافعي : قال الله - تبارك وتعالى - : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) .

قال : يقال : نزلت قبل تحريم الخمر . وأيما كان نزولها : قبل تحريم الخمر [ ص: 58 ] أو بعد [هـ ] ، فمن صلى سكران : لم تجز صلاته لنهي الله (عز وجل ) إياه عن الصلاة ، حتى يعلم ما يقول ، وإن معقولا : أن الصلاة : قول ، وعمل ، وإمساك في مواضع مختلفة . ولا يؤدي هذا كما أمر به ، إلا من عقله " .

* * *

وبهذا الإسناد ، قال : قال الشافعي : " قال الله - تبارك وتعالى - : ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ) وقال : ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ) ، فذكر الله الأذان للصلاة ، وذكر يوم الجمعة . فكان بينا (والله أعلم ) : أنه أراد المكتوبة بالآيتين معا ، وسن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) الأذان للمكتوبات [ولم يحفظ عنه أحد علمته : أنه أمر بالأذان لغير صلاة مكتوبة ] " .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية