الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أنا أبو سعيد ، أنا أبو العباس ، أنا الربيع ، أنا الشافعي [قال ] " قال الله (تبارك وتعالى ) لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( ورتل القرآن ترتيلا ) ، فأقل الترتيل : ترك العجلة في القرآن عن الإبانة . وكلما زاد على أقل الإبانة في القرآن ، كان أحب إلي : ما لم يبلغ أن تكون الزيادة فيه تمطيطا " .

* * *

قرأت في كتاب " المختصر الكبير " - فيما رواه أبو إبراهيم المزني ، عن الشافعي (رحمه الله ) أنه قال : أنزل الله - عز وجل - على رسوله (صلى الله عليه وسلم ) فرض القبلة بمكة، فكان يصلي في ناحية يستقبل منها البيت [الحرام ] ، وبيت المقدس ، فلما هاجر إلى المدينة ، استقبل بيت المقدس ، موليا عن البيت الحرام ستة عشر شهرا - : وهو يحب : لو قضى الله إليه باستقبال البيت الحرام ؛ لأن فيه مقام أبيه إبراهيم ، وإسماعيل وهو : المثابة للناس ، والأمن ، وإليه الحج وهو : المأمور به : أن يطهر للطائفين ، والعاكفين ، والركع السجود . مع كراهية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وافق اليهود ، فقال لجبريل عليه السلام : " لوددت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها " ، فأنزل الله - عز وجل - : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) . - يعني (والله أعلم ) ، فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه ، فقال جبريل عليه السلام للنبي (صلى الله عليه وسلم ) " يا محمد أنا عبد مأمور [ ص: 65 ] مثلك ، لا أملك شيئا فسل الله " . فسأل النبي (صلى الله عليه وسلم ) ربه : أن يوجهه إلى البيت الحرام ، وصعد جبريل (عليه السلام ) إلى السماء ، فجعل النبي (صلى الله عليه وسلم ) يديم طرفه إلى السماء : رجاء أن يأتيه جبريل (عليه السلام ) بما سأل . فأنزل الله - عز وجل - : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) إلى قوله : ( فلا تخشوهم واخشوني ) " .

" في قوله : ( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) ، يقال : يجدون - فيما نزل عليهم - : أن النبي الأمي - : من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام : - يخرج من الحرم ، وتعود قبلته ، وصلاته مخرجه . يعني : الحرم " .

وفي قوله تعالى : ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر [ ص: 66 ] المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة ) قيل في ذلك (والله أعلم ) : لا تستقبلوا المسجد الحرام من المدينة ، إلا وأنتم مستدبرون بيت المقدس ، وإن جئتم من جهة نجد اليمن - فكنتم تستقبلون البيت الحرام ، وبيت المقدس - : استقبلتم المسجد الحرام لا : أن إرادتكم : بيت المقدس ، وإن استقبلتموه باستقبال المسجد الحرام . [ و ] لأنتم كذلك : تستقبلون ما دونه [و ] " وراءه لا إرادة أن يكون قبلة ، ولكنه جهة قبلة " .

" وقيل : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة ) : في استقبال قبلة غيركم " .

" وقيل : في تحويلكم عن قبلتكم التي كنتم عليها ، إلى غيرها . وهذا أشبه ما قيل فيها (والله أعلم ) - : لقول الله - عز وجل - : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) إلى قوله تعالى : ( مستقيم ) . فأعلم الله نبيه (صلى الله عليه وسلم ) : أن لا حجة عليهم في التحويل يعني : لا يتكلم في ذلك أحد بشيء ، يريد الحجة إلا الذين ظلموا منهم . لا : أن لهم حجة ؛ لأن عليهم أن ينصرفوا عن قبلتهم ، إلى القبلة التي أمروا بها " .

[ ص: 67 ] " وفي قوله تعالى : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ) ؛ لقوله إلا لنعلم أن قد علمهم من يتبع الرسول ، وعلم الله كان - قبل اتباعهم وبعده - سواء " .

" وقد قال المسلمون : فكيف بما مضى من صلاتنا ، ومن مضى منا ؟

فأعلمهم الله (عز وجل ) : أن صلاتهم إيمان ، فقال : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) الآية " .

" ويقال : إن اليهود قالت : البر في استقبال المغرب ، وقالت النصارى : البر في استقبال المشرق بكل حال ، فأنزل الله (عز وجل ) فيهم : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) .

يعني (والله أعلم ) : وأنتم مشركون ؛ لأن البر لا يكتب لمشرك " .

" فلما حول الله رسوله (صلى الله عليه وسلم ) إلى المسجد الحرام - : [ ص: 68 ] صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أكثر صلاته ، مما يلي الباب : من وجه الكعبة ، وقد صلى من ورائها ، والناس معه : مطيفين بالكعبة ، مستقبليها كلها ، مستدبرين ما وراءها : من المسجد الحرام " .

" قال : وقوله - عز وجل - : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ، فشطره وتلقاؤه وجهته : واحد في كلام العرب " .

واستدل عليه ببعض ما في كتاب الرسالة .

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، نا أبو العباس ، أنا الربيع ، أنا الشافعي (رحمه الله ) ، قال : " قال الله - تبارك وتعالى - : ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . ففرض عليهم حيث ما كانوا : أن يولوا وجوههم شطره . و " شطره " : جهته في كلام العرب . إذا قلت : " أقصد شطر كذا " : معروف أنك تقول : " أقصد قصد عين كذا " يعني : قصد نفس كذا . وكذلك : " تلقاءه وجهته " ، أي : أستقبل [ ص: 69 ] تلقاءه وجهته . وكلها بمعنى واحد : وإن كانت بألفاظ مختلفة .

قال خفاف بن ندبة :


ألا من مبلغ عمرا رسولا وما تغني الرسالة شطر عمرو



وقال ساعدة بن جؤية :


أقول لأم زنباع : أقيمي     صدور العيس ، شطر بني تميم



وقال لقيط الإيادي :


وقد أظلكم من شطر ثغركم     هول له ظلم تغشاكم قطعا



وقال الشاعر :


إن العسيب بها داء مخامرها     فشطرها بصر العينين مسحور



قال الشافعي (رحمه الله ) : يريد : [تلقاءها ] بصر العينين ونحوها - : تلقاء جهتها " . وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين : أن شطر الشيء : قصد عين الشيء : إذا كان معاينا : فبالصواب ، وإن كان [ ص: 70 ] مغيبا : فبالاجتهاد ، والتوجه إليه . وذلك : أكثر ما يمكنه فيه " .

" وقال الله تعالى : ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ) ، وقال تعالى : ( وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) .

فخلق الله لهم العلامات ، ونصب لهم المسجد الحرام ، وأمرهم : أن يتوجهوا إليه . وإنما توجههم إليه : بالعلامات التي خلق لهم ، والعقول التي ركبها فيهم : التي استدلوا بها على معرفة العلامات . وكل هذا : بيان ونعمة منه - جل ثناؤه - " .

قال الشافعي : " ووجه الله رسوله (صلى الله عليه وسلم ) - إلى القبلة في الصلاة - إلى بيت المقدس فكانت القبلة التي لا يحل - قبل نسخها - استقبال غيرها . ثم نسخ الله قبلة بيت المقدس ، [و ] وجهه إلى البيت . [فلا يحل لأحد استقبال بيت المقدس أبدا لمكتوبة ولا يحل أن يستقبل غير البيت الحرام ] . وكل كان حقا في وقته " . وأطال الكلام فيه .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية