الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله ( وللمدعي أن يقول " لي بينة " وإن لم يقل ، قال الحاكم " ألك بينة ؟ " ) . وله قول ذلك قبل أن يقول المدعي " لي بينة " فإن قال " لي بينة " أمره بإحضارها . ومعناه : إن شئت فأحضرها . وهذا المذهب مطلقا . وقدمه في الفروع . [ ص: 244 ] قال في الهداية ، والخلاصة ، وغيرهما : وإن أنكر سأل المدعي " ألك بينة ؟ " وقال في المحرر : لا يقول الحاكم للمدعي " ألك بينة ؟ " إلا إذا لم يعرف أن هذا موضع البينة . وجزم به في الوجيز . وقال في الرعاية الكبرى ، والحاوي : فإن قال المدعي " لي بينة " وأحضرها : حكم بها . وإن جهل أنه موضعها : قال له " ألك بينة ؟ " فإن قال ( نعم ) طلبها وحكم بها . وكذا إن قال " إن كانت لك بينة فأحضرها إن شئت " ففعل . وقال في المستوعب ، والمغني : لا يأمره بإحضارها . لأن ذلك حق له . فله أن يفعل ما يرى . قوله ( فإذا أحضرها : سمعها الحاكم ) . بلا نزاع . لكن لا يسألها الحاكم . على الصحيح من المذهب . جزم به في المغني ، والشرح ، والفروع . وقال : ويتوجه وجه .

فائدة :

لا يقول الحاكم لهما " أشهدا " وليس له أن يلقنهما . على الصحيح من المذهب . وقال في المستوعب : ولا ينبغي ذلك . وقال في الموجز : يكره ذلك ، كتعنيفهما وانتهارهما . وظاهر الكافي في التعنيف والانتهار : يحرم . قوله ( فإذا أحضرها : سمعها الحاكم . وحكم بها إذا سأله المدعي ) . الصحيح من المذهب : أنه لا يحكم إلا بسؤال المدعي . [ ص: 245 ] وعليه جماهير الأصحاب . وجزم به في الشرح ، وغيره . وقدمه في الفروع . وقيل : له الحكم قبل سؤاله . وهي شبيهة بما إذا أقر له . على ما تقدم .

فائدة :

إذا شهدت البينة : لم يجز له ترديدها ويحكم في الحال . على الصحيح من المذهب . قدمه في الفروع . وقال في الرعاية : إن ظن الصلح : أخر الحكم . وقال في الفصول : وأحببنا له أمرهما بالصلح ، ويؤخره . فإن أبيا : حكم . وقال في المغني ، والشرح : يقول له الحاكم " قد شهدا عليك . فإن كان قادح فبينه عندي " يعني : يستحب ذلك . وذكره غيرهما . وذكره في المذهب ، والمستوعب ، فيما إذا ارتاب فيهما . قال في الفروع : فدل أن له الحكم مع الريبة . قلت : الحكم مع الريبة : فيه نظر بين . وقال في الترغيب ، وغيره : لا يجوز الحكم بضد ما يعلمه ، بل يتوقف . ومع اللبس يأمر بالصلح . فإن عجل فحكم قبل البيان : حرم ولم يصح .

تنبيه :

ظاهر قوله " فإذا أحضرها سمعها الحاكم وحكم " أن الشهادة . لا تسمع قبل الدعوى . واعلم أن الحق حقان : حق لآدمي معين ، وحق لله . [ ص: 246 ] فإن كان الحق لآدمي معين ، فالصحيح من المذهب : أنها لا تسمع قبل الدعوى . جزم به في المغني ، والشرح . ذكراه في أثناء كتاب الشهادات . وقدمه في الفروع . وسمعها القاضي في التعليق ، وأبو الخطاب في الانتصار . والمصنف في المغني : إن لم يعلم به . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : هو غريب . وذكر الأصحاب : أنها تسمع بالوكالة من غير خصم . ونقله مهنا . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : تسمع ولو كان في البلد . وبناه القاضي ، وغيره : على جواز القضاء على الغائب . انتهى . والوصية : مثل الوكالة . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : الوكالة إنما تثبت استيفاء حق ، أو إبقاءه . وهو مما لا حق للمدعي عليه فيه . فإن دفعه إلى الوكيل وإلى غيره سواء . ولهذا لم يشترط فيها رضاه . وإن كان الحق لله تعالى كالعبادات ، والحدود ، والصدقة ، والكفارة : لم تصح به الدعوى ، بل ولا تسمع . وتسمع البينة من غير تقدم دعوى . وهذا المذهب . وعليه جماهير الأصحاب . وجزم به المصنف ، والشارح ، وغيرهما . وقدمه في الفروع ، وغيره . قال في التعليق : شهادة الشهود دعوى . قال : للإمام أحمد رحمه الله في بينة الزنا تحتاج إلى مدع ؟ فذكر خبر [ ص: 247 ] أبي بكرة رضي الله عنه وقال : لم يكن مدع . وقال في الرعاية : تصح دعوى حسبة من كل مسلم مكلف رشيد في حق الله تعالى كعدة ، وحد ، وردة ، وعتق واستيلاد ، وطلاق ، وكفارة ونحو ذلك ، وبكل حق لآدمي غير معين ، وإن لم يطلبه مستحقه . وذكر أبو المعالي : لنائب الإمام مطالبة رب مال باطن بزكاة ، إذا ظهر له تقصير . وفيما أوجبه من نذر وكفارة ونحوه : وجهان . وقال القاضي في الخلاف فيمن ترك الزكاة : هي آكد . لأن للإمام أن يطالب بها ، بخلاف الكفارة والنذر . وقال في الانتصار : في حجره على مفلس الزكاة ، كمسألتنا ، إذا ثبت وجوبها عليه ، لا الكفارة . وقال في الترغيب : ما شمله حق الله والآدمي ، كسرقة : تسمع الدعوى في المال ، ويحلف منكر . ولو عاد إلى مالكه ، أو ملكه سارقه : لم تسمع . لتمحض حق الله . وقال في السرقة : إن شهدت بسرقة قبل الدعوى ، فأصح الوجهين : لا تسمع . وتسمع إن شهدت : أنه باعه فلان . وقال في المغني : كسرقة وزناه بأمته لمهرها : تسمع . ويقضي على ناكل بمال . وقاله ابن عقيل ، وغيره .

فائدة :

تقبل بينة عتق ، ولو أنكر العبد . نقله الميموني . وذكره في الموجز ، والتبصرة . واقتصر عليه في الفروع . [ ص: 248 ] تنبيه :

وكذا الحكم في أن الدعوى لا تصح ولا تسمع . وتسمع البينة قبل الدعوى في كل حق لآدمي غير معين . كالوقف على الفقراء ، أو على مسجد ، أو رباط ، أو وصية لأحدهما . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : وكذا عقوبة كذاب مفتر على الناس ، والتكلم فيهم . وتقدم في التعزير كلام الإمام أحمد رحمه الله ، والأصحاب . وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله ، في حفظ وقف وغيره بالثبات عن خصم مقدر : تسمع الدعوى والشهادة فيه بلا خصم . وهذا قد يدخل في كتاب القاضي . وفائدته :

كفائدة الشهادة . وهو مثل كتاب القاضي إذا كان فيه ثبوت محض . فإنه هناك يكون مدع فقط بلا مدعى عليه حاضر . لكن هنا المدعى عليه متخوف . وإنما المدعي يطلب من القاضي سماع البينة أو الإقرار كما يسمع ذلك شهود الفرع . فيقول القاضي ( ثبت ذلك عندي ، بلا مدعى عليه ) . قال : وقد ذكره قوم من الفقهاء . وفعله طائفة من الفقهاء . وفعله طائفة من القضاة ، ولم يسمعها طوائف من الحنفية والشافعية والحنابلة . لأن القصد بالحكم فصل الخصومة . ومن قال بالخصم المسخر : نصب الشر ، ثم قطعه . وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله ، ما ذكره القاضي من احتيال الحنفية على سماع البينة من غير وجود مدعى عليه فإن المشتري المقر له بالبيع قد قبض المبيع وسلم الثمن . فهو لا يدعي شيئا ، ولا يدعى عليه شيء . وإنما غرضه تثبيت الإقرار والعقد . والمقصود سماع القاضي البينة . وحكمه بموجبها من غير وجود مدعى عليه ، ومن غير مدع على أحد . لكن خوفا من حدوث خصم مستقبل . فيكون [ ص: 249 ] هذا الثبوت حجة بمنزلة الشهادة . فإن لم يكن القاضي يسمع البينة بلا هذه الدعوى وإلا امتنع من سماعها مطلقا ، وعطل هذا المقصود الذي احتالوا له . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : وكلامه يقتضي أنه هو لا يحتاج إلى هذا الاحتيال ، مع أن جماعات من القضاة المتأخرين من الشافعية والحنابلة دخلوا مع الحنفية في ذلك ، وسموه " الخصم المسخر " .

قال : وأما على أصلنا الصحيح ، وأصل مالك رحمه الله : فإما أن نمنع الدعوى على غير خصم منازع ، فتثبت الحقوق بالشهادات على الشهادات ، كما ذكره من ذكره من أصحابنا . وإما أن نسمع الدعوى والبينة بلا خصم . كما ذكره طائفة من المالكية والشافعية . وهو مقتضى كلام الإمام أحمد رحمه الله وأصحابنا في مواضع . لأنا نسمع الدعوى والبينة على الغائب والممتنع . وكذا على الحاضر في البلد في المنصوص . فمع عدم خصم : أولى . قال ، وقال أصحابنا : كتاب الحاكم كشهود الفرع . قالوا : لأن المكتوب إليه يحكم بما قام مقامه غيره . لأن إعلام القاضي للقاضي قائم مقام الشاهدين . فجعلوا كل واحد من كتاب الحاكم ، وشهود الفرع : قائما مقام غيره وهو بدل عن شهود الأصل . وجعلوا كتاب القاضي كخطابه . وإنما خصوه بالكتاب : لأن العادة تباعد الحاكمين . وإلا فلو كانا في محل واحد : كان مخاطبة أحدهما للآخر أبلغ من الكتاب . وبنوا ذلك على أن الحاكم يثبت عنده بالشهادة ما لم يحكم به . وإنما يعلم به حاكما آخر ليحكم به ، كما يعلم الفروع بشهادة الأصول . [ ص: 250 ] قال : وهذا كله إنما يصح إذا سمعت الدعوى والبينة في غير وجه خصم وهو يفيد : أن كل ما يثبت بالشهادة على الشهادة : يثبته القاضي بكتابه قال : ولأن الناس بهم حاجة إلى إثبات حقوقهم بإثبات القضاة ، كإثباتها بشهادة الفروع . وإثبات القضاة أنفع لكونه كفى مؤنة النظر في الشهود . وبهم حاجة إلى الحكم فيما فيه شبهة أو خلاف لرفع . وإنما يخافون من خصم حادث

التالي السابق


الخدمات العلمية