الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
(أنا ) أبو سعيد بن أبي عمرو ، نا أبو العباس ، أنا الربيع ، قال : قال الشافعي (رحمه الله ) : " في قول الله عز وجل : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) ؛ إلى : ( ممن ترضون من الشهداء ) ، وقوله تعالى : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) ؛ دلالة : على أن الله [ ص: 144 ] (عز وجل ) إنما عنى : المسلمين ؛ دون غيرهم ".

ثم ساق الكلام ، إلى أن قال : " ومن أجاز شهادة أهل الذمة ، فأعدلهم عنده : أعظمهم بالله شركا : أسجدهم للصليب ، وألزمهم للكنيسة ".

" فإن قال قائل : فإن الله (عز وجل ) يقول : ( حين الوصية [ ص: 145 ] اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) ؛ أي : من غير أهل دينكم ".

" قال الشافعي : [فقد ] سمعت من يتأول هذه الآية ، على : من غير قبيلتكم : من المسلمين ".

قال الشافعي : " والتنزيل (والله أعلم ) يدل على ذلك : لقول الله تعالى : ( تحبسونهما من بعد الصلاة ) ؛ والصلاة الموقتة : للمسلمين . ولقول الله تعالى : ( فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري [ ص: 146 ] به ثمنا ولو كان ذا قربى ) ؛ وإنما القرابة : بين المسلمين الذين كانوا مع النبي (صلى الله عليه وسلم ) : من العرب ؛ أو : بينهم وبين أهل الأوثان . لا : بينهم وبين أهل الذمة . وقول [الله ] : ( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) ؛ فإنما يتأثم من كتمان الشهادة [للمسلمين ] : المسلمون ؛ لا : أهل الذمة ".

قال الشافعي : " وقد سمعت من يذكر : أنها منسوخة بقول الله عز وجل : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) ؛ والله أعلم ".

ثم جرى في سياق كلام الشافعي (رحمه الله ) أنه قال : " قلت له : إنما ذكر الله هذه الآية : في وصية مسلم أفتجيزها : في وصية مسلم [ ص: 147 ] في السفر ؟ . قال : لا . قلت : أو تحلفهم : إذا شهدوا . ؟ . قال : لا . قلت : ولم : وقد تأولت : أنها في وصية مسلم . ؟ ! . قال : لأنها منسوخة قلت : فإن نسخت فيما أنزلت فيه - : فلم تثبتها فيما لم تنزل فيه ؟ ! ". .

وأجاب الشافعي (رحمه الله ) - عن الآية - : بجواب آخر ؛ على ما نقل عن مقاتل بن حيان ، وغيره : في سبب نزول الآية .

وذلك : فيما أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، قال : نا أبو العباس ، أنا الربيع ، أنا الشافعي : " أخبرني أبو سعيد : معاذ بن موسى [ ص: 148 ] الجعفري ؛ ، عن بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان (قال بكير : قال مقاتل : أخذت هذا التفسير ، عن : مجاهد ، والحسن ، والضحاك . ) - : في قول الله عز وجل : ( اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) الآية . - : أن رجلين نصرانيين : من أهل دارين ؛ أحدهما : تميمي ؛ والآخر يماني ؛ (وقال غيره : من أهل دارين ؛ أحدهما : تميم ؛ والآخر : عدي . ) - : صحبهما [ ص: 149 ] مولى لقريش في تجارة ، فركبوا البحر : ومع القرشي مال معلوم ، قد علمه أولياؤه - من بين آنية ، وبز ، ورقة . - فمرض القرشي : فجعل وصيته إلى الداريين ؛ فمات ، وقبض الداريان المال والوصية : فدفعاه إلى أولياء الميت ، وجاءا ببعض ماله . فأنكر القوم قلة المال ، فقالوا للداريين : إن صاحبنا قد خرج : ومعه مال أكثر مما أتيتمونا به ؛ فهل باع شيئا ، أو اشترى [شيئا ] : فوضع فيه ؛ أو هل طال مرضه : فأنفق على نفسه ؟ . قالا : لا . قالوا : فإنكما خنتمونا . فقبضوا المال ، ورفعوا أمرهما إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) : فأنزل [ ص: 150 ] الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) ؛ إلى آخر الآية . فلما نزلت : ( تحبسونهما من بعد الصلاة ) : أمر النبي (صلى الله عليه وسلم ) الداريين فقاما بعد الصلاة : فحلفا بالله رب السموات : ما ترك مولاكم : من المال ، إلا ما أتيناكم به ؛ وإنا لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلا : من الدنيا ؛ ( ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) . فلما حلفا : خلى سبيلهما . ثم : إنهم وجدوا - بعد ذلك - إناء : من آنية الميت ؛ فأخذ الداريان ، فقالا : اشتريناه منه في حياته ؛ وكذبا فكلفا البينة : فلم يقدرا عليها . فرفع ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) : فأنزل الله عز وجل : ( فإن عثر ) ؛ يقول : [ ص: 151 ] فإن اطلع ( على أنهما استحقا إثما ) يعني : الداريين ؛ [أي ] : كتما حقا ؛ ( فآخران ) : من أولياء الميت ؛ ( يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله ) : فيحلفان بالله : إن مال صاحبنا كان كذا وكذا ؛ وإن الذي نطلب - : قبل الداريين . - لحق ؛ ( وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ) . فهذا : قول الشاهدين أولياء الميت : ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ) ؛ يعني : الداريين والناس ؛ [أن يعودوا لمثل ذلك ] ".

" [قال الشافعي : يعني : من كان في مثل حال الداريين ] : من [ ص: 152 ] الناس . ولا أعلم الآية تحتمل معنى : غير جملة ما قال ".

" وإنما معنى ( شهادة بينكم ) : أيمان بينكم ؛ كما سميت أيمان المتلاعنين : شهادة ، والله تعالى أعلم ". .

وبسط الكلام فيه ، إلى أن قال : " وليس في هذا : رد اليمين ، إنما كانت يمين الداريين : على ما ادعى الورثة : من الخيانة ؛ ويمين ورثة الميت : على ما ادعى الداريان : أنه صار لهما من قبله ".

" وقوله عز وجل : ( أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) ، [ ص: 153 ] فذلك (والله أعلم ) : أن الأيمان كانت عليهم : بدعوى الورثة : أنهم اختانوا ؛ ثم صار الورثة حالفين : بإقرارهم : أن هذا كان للميت ، وادعائهم شراءه منه . فجاز : أن يقال : ( أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) : [تثنى عليهم الأيمان . بما يجب عليهم إن صارت لهم الأيمان ؛ كما يجب على من حلف لهم ] . وذلك قوله - والله أعلم - : ( يقومان مقامهما ) . فيحلفان كما أحلفا ".

" وإذا كان هذا كما وصفت : فليست هذه الآية : ناسخة ، ولا منسوخة ". .

قال الشيخ : وقد روينا عن ابن عباس ، ما دل : على صحة ما قال مقاتل بن حيان .

[ ص: 154 ]

ويحتمل : أن يكون المراد بقوله تعالى : ( شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران ) - : الشهادة نفسها . وهو : أن يكون للمدعي اثنان ذوا عدل - : من المسلمين . - يشهدان لهم بما ادعوا على الداريين من الخيانة . ثم قال : ( أو آخران من غيركم ) ؛ يعني : إذا لم يكن للمدعين : منكم ؛ بينة - : فآخران : من غيركم ؛ يعني : فالداريان - . اللذان ادعي عليهما . - يحبسان من بعد الصلاة . ( فيقسمان بالله ) ؛ يعني . يحلفان على إنكار ما ادعي عليهما ؛ على ما حكاه مقاتل ، والله أعلم .

* * *

[ ص: 155 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية