الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
194 - حدثنا محمد بن أحمد أبو أحمد قال : ثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه [ ص: 247 ] قال : ثنا إسحاق بن إبراهيم قال : ثنا وهب بن جرير قال : حدثني أبي ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا خير جار ، النجاشي أمنا على ديننا ، وعبدنا الله عز وجل ، لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين ، وأن يهدى للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة ، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم ، فجمعوا له أدما كثيرا ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية ، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ، ثم قدما إلى النجاشي هداياه ، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما ، قالت : فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار ، وعند خير جار ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلماالنجاشي ، ثم قالا لكل بطريق منهم : قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم ، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعث أشراف قومهم ليردوهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن [ ص: 248 ] يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما : نعم ، ثم إنهما قربا هداياهما إلى النجاشي فقبلها ، ثم كلماه فقالا : أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثت إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ؛ لتردهم إليهم قالت : ولم يك شيء أبغض إلى النجاشي من أن يسمع كلامهم ، فقالت بطارقته حوله : صدقوا أيها الملك ، قالت : فغضب النجاشي ، ثم قال : هؤلاء وايم الله إذا لا أسلمهم إليكما ولا أكاد ، قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي ، حتى أدعوهم وأسألهم ما يقول هذان في أمرهم ، ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا فقال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا أجبتموه ؟ قالوا : نقول والله ما علمنا وما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن ، فلما جاؤوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم ؟ قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال : " أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من [ ص: 249 ] الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن قول الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، قالت : فعدد عليه أمور الإسلام ، فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من الله عز وجل ، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم الله ، وأحللنا ما أحل الله ، فعدا علينا قومنا فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك . قالت : فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قال له جعفر : نعم ، فقال له النجاشي : فاقرأ علي ، قالت : فقرأ صدرا من " كهعيص " قالت : فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته ، وبكت الأساقفة حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والحق الذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، فوالله لا أسلمهم إليكما ، ولا أكاد ، قال النجاشي : ما تقولون في عيسى ابن مريم ؟ فقال جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، قال : فضرب بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ، ثم قال : ما عدا عيسى مما قلت وزن هذا العود ، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال ، فقال : وإن [ ص: 250 ] نخرتم والله ، اذهبوا سيوم بأرضي ، - والسيوم : الآمنون - ، من سبكم غرم ، ثم من سبكم غرم ، ثم من سبكم غرم ، ما أحب أن لي دبر ذهب وإني آذيت رجلا منكم ، - والدبر بلسان الحبشة : الجبل - ، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه ، قالت : فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به ، وأقمنا بخير دار مع خير جار حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية