الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
226 - ثنا محمد بن جعفر بن الهيثم قال : ثنا محمد بن أحمد بن أبي العوام حدثني أبي ثنا محمد بن إبراهيم بن يسار ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الشعبي ، وعبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن عمرو ، عن عقيل بن أبي طالب ، ، وعن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري ، عن الزهري قال : " لما اشتد المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمه العباس بن عبد المطلب : يا عم إن الله عز وجل ناصر دينه بقوم يهون عليهم ، رغم قريش ، عزا في ذات الله تعالى : فامض بي إلى عكاظ ، فأرني منازل أحياء العرب حتى أدعوهم إلى الله عز وجل ، وأن يمنعوني ويؤووني حتى أبلغ عن الله [ ص: 302 ] عز وجل ما أرسلني به ، قال : فقال العباس : يا ابن أخي امض إلى عكاظ ، فأنا ماض معك حتى أدلك على منازل الأحياء ، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثقيف ، ثم استقرأ القبائل في سنته ، فلما كان العام المقبل ، وذلك حين أمر الله تعالى أن يعلن الدعاء ، لقي الستة نفر الخزرجيين والأوسيين أسعد بن زرارة ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وعبد الله بن رواحة ، وسعد بن الربيع ، والنعمان بن حارثة ، وعبادة بن الصامت ، فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم في أيام منى عند جمرة العقبة ليلا ، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله عز وجل ، وإلى عبادته ، والمؤازرة على دينه الذي بعث به أنبياءه ورسله ، فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحي إليه ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة إبراهيم : وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا إلى آخر السورة ، فرق القوم ، وأخبتوا حين سمعوا ، وأجابوه .

فمر العباس بن عبد المطلب وهو يكلمهم ويكلمونه ، فعرف صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ابن أخي من هؤلاء الذين عندك ؟ قال : يا عم سكان يثرب ، الأوس والخزرج ، فدعوتهم إلى ما دعوت إليه من قبلهم من الأحياء ، فأجابوني ، وصدقوني ، وذكروا أنهم يخرجونني إلى بلادهم ، فنزل العباس بن عبد المطلب ، وعقل راحلته ، ثم قال لهم : يا معشر الأوس والخزرج هذا ابن أخي ، وهو أحب الناس إلي ، فإن كنتم صدقتموه وآمنتم به وأردتم إخراجه معكم ، فإني أريد أن آخذ عليكم موثقا تطمئن به نفسي ، ولا تخذلوه ، ولا تغروه ، فإن جيرانكم اليهود ، واليهود له عدو ، ولا آمن مكرهم عليه ، فقال أسعد بن زرارة ، وشق عليه قول العباس حين اتهم عليه سعد وأصحابه قال : يا رسول الله ائذن لنا فلنجبه غير مخشنين بصدرك ، ولا متعرضين لشيء مما تكره إلا تصديقا لإجابتنا إياك ، وإيمانا بك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجيبوه غير متهمين ، فقال أسعد بن زرارة ، وأقبل على [ ص: 303 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه ، فقال : يا رسول الله إن لكل دعوة سبيلا إن لين ، وإن شدة ، وقد دعوت اليوم إلى دعوة متجهمة للناس ، متوعرة عليهم ، دعوتنا إلى ترك ديننا ، واتباعك على دينك ، وتلك رتبة صعبة ، فأجبناك إلى ذلك ، ودعوتنا إلى قطع ما بيننا ، وبين الناس من الجوار والأرحام القريب والبعيد ، وتلك رتبة صعبة ، فأجبناك إلى ذلك ، ودعوتنا ونحن جماعة في دار عز ومنعة لا يطمع فيها أحد أن يرأس علينا رجل من غيرنا قد أفرده قومه وأسلمه أعمامه ، وتلك رتبة صعبة ، فأجبناك إلى ذلك ، وكل هؤلاء الرتب مكروهة عند الناس إلا من عزم الله على رشده ، والتمس الخير في عواقبها ، وقد أجبناك إلى ذلك بألسنتنا وصدورنا وأيدينا ؛ إيمانا بما جئت به ، وتصديقا بمعرفة ثبتت في قلوبنا نبايعك على ذلك ، ونبايع ربنا وربك ، يد الله فوق أيدينا ، ودماؤنا دون دمك ، وأيدينا دون يدك ، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا ، وأبناءنا ونساءنا ، فإن نفي بذلك فلله نفي ، وإن نغدر فبالله نغدر ، ونحن به أشقياء ، هذا الصدق منا يا رسول الله ، والله المستعان .

ثم أقبل على العباس بن عبد المطلب بوجهه ، فقال : وأما أنت أيها المعترض لنا بالقول دون النبي صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم ما أردت بذلك ، ذكرت أنه ابن أخيك ، وأحب الناس إليك ، فنحن قد قطعنا القريب والبعيد وذا الرحم ، ونشهد أنه رسول الله ، أرسله من عنده ، ليس بكذاب ، وأن ما جاء به لا يشبه كلام البشر ، وأما ما ذكرت أنك لا تطمئن إلينا في أمره حتى تأخذ مواثيقنا ، فهذه خصلة لا نردها على أحد أرادها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخذ ما شئت ، ثم التفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله خذ لنفسك ما شئت ، واشترط لربك ما شئت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ، ولا تشركوا به شيئا ، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ، وأبناءكم ونساءكم ، قالوا : فذلك لك يا رسول الله [ ص: 304 ] ، فقال العباس : عليكم بذلكم عهد الله مع عهودكم ، وذمة الله مع ذمتكم ، في هذا الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، تبايعونه وتبايعون الله ، الله ربكم ، يد الله فوق أيديكم ، لتجدن في نصره ، ولتشدن له من أزره ، ولتوفن له بعهده بدفع أيديكم ، وصرح ألسنتكم ، ونصح صدوركم ، لا يمنعكم من ذلك رغبة أشرفتم عليها ، ولا رهبة أشرفت عليكم ، ولا يؤتى من قبلكم ، قالوا جميعا : نعم ، قال : الله عليكم بذلك راع ووكيل ، قالوا : نعم ، قال : اللهم إنك سامع شاهد ، وإن هذا ابن أخي قد استرعاهم ذمته ، واستحفظهم نفسه اللهم ، فكن لابن أخي عليهم شهيدا ، فرضي القوم بما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه ، ورضي النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطوه من أنفسهم ، وقد كانوا قالوا له : يا رسول الله إذا أعطيناك ذلك ، فما لنا ؟ قال : رضوان الله والجنة ، قالوا : رضينا وقبلنا ، فأقبل أبو الهيثم بن التيهان على أصحابه ، فقال : ألستم أنتم تعلمون أن هذا رسول الله إليكم ، وقد آمنتم به وصدقتموه ؟ قالوا : بلى ، قال : أولستم تعلمون أنه في بلد الله الحرام ومسقط رأسه ومولده وعشيرته ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن كنتم خاذليه أو مسلميه يوما من الدهر لبلاء ينزل بكم فالآن ، فإن العرب سترميكم فيه عن قوس ، واحدة ، فإن طابت أنفسكم عن الأنفس والأموال والأولاد في ذات الله عز وجل ، فما لكم عند الله عز وجل من الثواب خير من أنفسكم وأموالكم وأولادكم .

فأجاب القوم جميعا : لا ، بل نحن معه بالوفاء والصدق ، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله لعلك إذا حاربنا الناس فيك ، وقطعنا ما بيننا ، وبينهم من الجوار والحلف والأرحام ، وحملتنا الحرب على [ ص: 305 ] سيسائها ، فكشفت لنا عن قناعها ، لحقت ببلدك وتركتنا وقد حاربنا الناس فيك ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " الدم الدم والهدم الهدم " . قال عبد الله بن رواحة : خل بيننا يا أبا الهيثم حتى نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسبقهم أبو الهيثم إلى بيعته ، فقال : أبايعك يا رسول الله على ما بايع الاثنا عشر نقيبا من بني إسرائيل موسى بن عمران .

فقال عبد الله بن رواحة : أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر من الحواريين عيسى ابن مريم .

وقال أسعد بن زرارة : أبايع الله ، وأبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أتم عهدي بوفائي ، وأصدق قولي بفعلي ونصرتك .

وقال النعمان بن حارثة : أبايع الله يا رسول الله ، وأبايعك على الإقدام في أمر الله ، لا أراقب فيه القريب ، والبعيد ، فإن شئت والله يا رسول الله ملنا بأسيافنا هذه على أهل منى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم أومر بذلك .

وقال عبادة بن الصامت : أبايعك يا رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم .

وقال سعد بن الربيع : أبايع الله يا رسول الله ، وأبايعك على أن لا أعصيكما ، ولا أكذبكما حديثا .

فانصرف القوم إلى بلادهم راضين مسرورين ، فسروا بما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي ، وتحسن إجابة قومهم لهم ، حتى وافوه من قابل وهم سبعون رجلا " .


التالي السابق


الخدمات العلمية