الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
214 - حدثنا سليمان بن أحمد قال : ثنا محمد بن زكريا الغلابي قال : ثنا شعيب بن واقد الصفار قال : ثنا أبان بن عثمان ، عن أبان بن تغلب وثنا إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق قال : ثنا محمد بن إسحاق الثقفي قال : ثنا عبد الجبار بن كثير التميمي الرقي قال : ثنا محمد بن بشر قال : ثنا أبان بن عبد الله البجلي ، عن أبان بن تغلب قال : ثنا عكرمة ، عن ابن عباس قال : حدثني علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج - وأنا معه وأبو بكر - إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب ، فتقدم أبو بكر فسلم ، وكان أبو بكر مقدما في كل حين ، وكان رجلا نسابة ، فقال : ممن القوم ؟ قالوا : من ربيعة ، قال : وأي ربيعة [ ص: 283 ] أنتم ؟ من هامتها أم من لهازمها ؟ قالوا : بل من هامتها العظمى ، فقال أبو بكر : من أي هامتها العظمى ؟ قال الغلابي في حديثه : بل من اللهزمة العظمى ، قال : وأي لهزمتها أنتم ؟ قالوا : ذهل الأكبر ، قال أبو بكر : أفمنكم عوف الذي كان يقال : " لا حر بوادي عوف " ؟ قالوا : لا ، قال : أفمنكم بسطام بن قيس بن مسعود أبو الملوك ومنتهى الأحياء ؟ قالوا : لا ، قال : أفمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها ؟ قالوا : لا ، قال : أفمنكم جساس بن مرة بن ذهل حامي الذمار ومانع الجار ؟ قالوا : لا ، قال : أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟ قالوا : لا ، فقال لهم : أفأنتم أخوال الملوك في كندة ؟ قالوا : لا ، قال : أفأنتم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا : لا ، قال لهم أبو بكر : فلستم بذهل الأكبر بل أنتم ذهل الأصغر ، قال : فوثب إليه منهم غلام يدعى دغفلا حين بقل وجهه ، فأخذ بزمام ناقة أبي بكر وهو يقول :


إن على سائلنا أن نسأله والعبء لا تعرفه أو تحمله



يا هذا ، سألتنا فأخبرناك ، فلم نكتمك شيئا ، ونحن نريد أن نسألك ، فمن أنت ؟ قال له : رجل من قريش ، فقال له الغلام : بخ بخ أهل السؤدد والرياسة ، وأزمة العرب وهداتها ، فممن أنت من قريش ؟ قال له : من بني تميم بن مرة ، فقال له الغلام : أمكنت والله الرامي من صفاة الثغرة ، أفمنكم قصي بن كلاب الذي قتل بمكة المتغلبين عليها ، وأجلى بقيتهم ، وجمع [ ص: 284 ] قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة ، ثم استولى على الدار ، ونزل قريشا منازلها ، فسمته العرب بذلك مجمعا وفيه يقول الشاعر لبني عبد مناف :


أليس أبوكم كان يدعى مجمعا     به جمع الله القبائل من فهر ؟



قال : لا ، قال الغلام : أفمنكم عبد مناف الذي انتهت إليه الوصايا ، وأبو الغطاريف السادة ؟ قال : لا ، قال : أفمنكم عمرو بن عبد مناف ، هاشم الذي هشم الثريد لقومه وأهل مكة مسنتون عجاف ، وفيه يقول الشاعر :


عمرو العلا هشم الثريد لقومه     ورجال مكة مسنتون عجاف
سنوا إليه الرحلتين كلاهما     عند الشتاء ورحلة الأصياف
كانت قريش بيضة فتفلقت     ، فالمح خالصه لعبد مناف
الرائشين وليس يعرف رائش     والقائلين هلم للأضياف
والضاربين الكبش يبرق بيضه     والمانعين البيض بالأسياف
لله درك لو نزلت بدارهم     منعوك من ذل ومن إقراف ؟



قال : لا ، قال : أفمنكم عبد المطلب شيبة الحمد ، وصاحب بئر مكة ، مطعم طير السماء والوحوش والسباع في الفلاء الذي كأن وجهه قمر يتلألأ في الليل المظلم - وقال عبد الجبار : في الليلة الظلماء الداج - قال : لا ، قال : أفمن أهل الإفاضة أنت ؟ قال : لا ، قال : أفمن أهل الحجابة أنت ؟ [ ص: 285 ] قال : لا ، قال : أفمن أهل الندوة أنت ؟ قال : لا ، قال : أفمن أهل السقاية أنت ؟ قال : لا ، قال : أفمن أهل الرفادة أنت ؟ قال : لا ، قال : أفمن المفيضين بالناس أنت ؟ قال : لا ، ثم جذب أبو بكر زمام الناقة من يده ، فقال له الغلام :


صادف درء السيل سيلا يدفعه     يهضبه حينا وحينا يصدعه



ثم قال : أما والله يا أخا قريش ، لو ثبت لي لخبرتك أنك من زمعات قريش ولست من الذوائب ، فأقبل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ، قال علي : قلت له : يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة ، فقال : أجل يا أبا الحسن ، إنه ليس من طامة إلا فوقها طامة والبلاء موكل بالقول ، قال : ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات ، فتقدم أبو بكر فسلم . قال علي : وكان مقدما في كل حين ، فقال لهم أبو بكر : ممن القوم ؟ قالوا : نحن بنو شيبان بن ثعلبة ، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم ، وكان في القوم مفروق بن عمرو ، وهانئ بن قبيصة ، والمثنى بن حارثة ، والنعمان بن شريك ، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو ، وكان مفروق قد غلبهم بيانا ولسانا ، وكان له غديرتان تسقطان على [ ص: 286 ] صدره ، وكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر ، فقال له أبو بكر : كيف العدد فيكم ؟ فقال له : إنا لنزيد على الألف ، ولن يغلب ألف من قلة ، قال : فكيف المنعة فيكم ؟ قال : علينا الجهد ولكل قوم جد ، قال أبو بكر : فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم ؟ قال مفروق : إنا أشد ما نكون غضبا حين نلقى ، وإنا أشد ما نكون لقاء إذا غضبنا ، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد ، والسلاح على اللقاح ، والنصر من عند الله ، يديلنا مرة ويديل علينا مرة ، لعلك أخو قريش ؟ قال أبو بكر : إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا ، فقال مفروق : وقد بلغنا أنه يذكر ذلك ، ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إلام تدعو يا أخا قريش ؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ، وقام أبو بكر يظلله بثوبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤووني وتمنعوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله تعالى ما أمرني به ، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله ، وكذبت رسوله ، واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغني الحميد ، قال له : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا إلى قوله تعالى : فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ ص: 287 ] وقال له مفروق : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم لعرفناه ، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يأمر بالعدل والإحسان إلى قوله تعالى : لعلكم تذكرون ، فقال له مفروق : دعوت والله يا قرشي إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك - وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة - فقال : وهذا هانئ بن قبيصة ، شيخنا وصاحب ديننا ، فقال له هانئ : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ، وصدقت قولك ، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر إن لم نتفكر في أمرك وننظر في عاقبة ما تدعونا إليه إنه زلة في الرأي وطيشة في العقل وقلة نظر في العاقبة ، وإنما تكون الزلة مع العجلة ، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا ، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر - وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة - فقال : وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا ، فقال المثنى : قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش ، وأعجبني ما تكلمت به ، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة ، إنما نزلنا بين صيرين أحدهما اليمامة ، والأخرى السماوة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما هذان الصيران ؟ فقال له : أما أحدهما ، فطفوف البر وأرض العرب ، وأما الآخر [ ص: 288 ] ، فأرض فارس وأنهار كسرى ، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ، ولا نؤوي محدثا ، ولعل هذا الأمر الذي تدعو إليه تكرهه الملوك ، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور ، وعذره مقبول ، وأما ما كان مما يلي بلاد ، فارس فذنب صاحبه غير مغفور ، وعذره غير مقبول ، فإن أردت أن ننصرك مما يلي العرب فعلنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه .

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضا على يد أبي بكر ، ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج ، فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال علي : وكانوا صدقا صبرا رضوان الله عليهم أجمعين " .


التالي السابق


الخدمات العلمية