الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
228 - حدثنا حبيب بن الحسن قال ثنا محمد بن يحيى المروزي قال ثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال ثنا إبراهيم بن سعد قال ثنا سلمة بن الفضل وثنا محمد بن أحمد بن الحسن قال ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال ثنا منجاب بن حارث قال ثنا إبراهيم بن يوسف ثنا زياد بن عبد الله قالا عن محمد بن إسحاق قال : لما قدم الأنصار المدينة بعدما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر الإسلام بها ، وفي قومهم بقايا على دينهم من أهل الشرك ، منهم عمرو بن الجموح وكان ابنه معاذ قد شهد العقبة ، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها .

وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة ، وشريفا من أشرافهم ، وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له مناة كما كانت الأشراف يصنعون ، يتخذه إلها ويطهره فلما أسلم فتيان بني سلمة معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة ، كانوا يدخلون على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة ، وفيها عذرة الناس منكسا على رأسه ، فإذا أصبح عمرو قال ويلكم ، من عدا على إلهنا في هذه الليلة ؟ قال ، ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه ، ثم قال : وايم الله لو أني أعلم من صنع بك هذا لأخزينه ، فإذا أمسى عمرو ، ونام ، عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك ، فلما أكثروا عليه ، استخرجه من حيث ألقوه يوما ، فغسله وطهره وطيبه ، ثم جاء [ ص: 311 ] بسيفه فعلقه عليه ، ثم قال إني والله ما أعلم من يفعل بك ما نرى ، فإن كان فيك خير فامتنع بهذا السيف معك ، فلما أمسى ونام ، عدوا عليه فأخذوه ، والسيف في عنقه ، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه معه بحبل ، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذرة من عذر الناس وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان فيه ، فخرج في طلبه حتى وجده في تلك البئر مقرونا بكلب ميت ، فلما رآه وأبصر شأنه ، وكلمه من أسلم من قومه أسلم يرحمه الله وحسن إسلامه .

وزاد منجاب عن زياد في حديثه عن محمد بن إسحاق قال وحدثني إسحاق بن يسار عن رجل من بني سلمة قال : لما أسلم فتيان بني سلمة أسلمت امرأة عمرو بن الجموح وولده ، قال لامرأته : لا تدعي أحدا من عيالك في أهلك حتى ننظر ما يصنع هؤلاء ، قالت : أفعل ، ولكن هل لك أن تسمع من ابنك فلان ما روى عنه ، قال : فلعله صبأ ، قالت : لا ، ولكن كان مع القوم ، فأرسل إليه ، فقال : أخبرني ما سمعت من كلام هذا الرجل ، فقرأ عليه : الحمد لله رب العالمين إلى قوله تعالى : الصراط المستقيم .

فقال : ما أحسن هذا وأجمله ، وكل كلامه مثل هذا ؟ فقال : يا أبتاه وأحسن من هذا ، قال ، فهل لك أن تبايعه ، قد صنع ذلك عامة قومك ، قال : لست فاعلا حتى أوامر مناة فأنظر ما يقول ؟ قال ، وكانوا إذا أرادوا كلام مناة جاءت عجوز فقامت خلفه فأجابت عنه ، قال ، فأتاه ، وغيبت العجوز ، وأقام عنده فتشكر له وقال : يا مناة تشعر أنه قد سيل بك وأنت غافل ، جاء رجل ينهانا عن عبادتك ويأمرنا بتعطيلك ، فكرهت أن أبايعه حتى أوامرك ، وخاطبه طويلا ، فلم يرد عليه ، فقال : أظنك قد غضبت ، ولم أصنع بعد شيئا ، فقام إليه فكسره .

[ ص: 312 ] وزاد إبراهيم بن سلمة في حديثه عن محمد بن إسحاق .

قال عمرو بن الجموح حين أسلم وعرف من الله ما عرف وهو يذكر صنمه وما أبصر من أمره ، ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة :


أتوب إلى الله مما مضى وأستنقذ الله من ناره     وأثني عليه بنعمائه
إله الحرام وأشتاره     فسبحانه عدد الخاطئين
وقطر السماء ومدراره     هداني وقد كنت في ظلمة
حليف مناة وأحجاره     وأنقذني بعد شيب القذال
من شين ذاك ومن عاره     فقد كدت أهلك في ظلمة
تدارك ذاك بمقداره     فحمدا وشكرا له ما بقيت
إله الأنام وجباره



وقال أيضا يذم صنمه :


تالله لو كنت إلها لم تكن     أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لمصرعك إلها مستدن     الآن فتشناك عن سوء الغبن
هو الذي أنقذني من قبل أن     أكون في ظلمة قبر مرتهن
الحمد لله العلي ذي المنن     الواهب الرزاق ديان الدين



قال الشيخ رضي الله عنه : وفي تضاعيف هذه الأخبار أدلة وكيدة اقتصصنا هذه الأخبار بألفاظها لما في مودعها من الدلائل .

منها ميل سعد بن معاذ إلى الإسلام بعدما خرج به إلى أسعد بن [ ص: 313 ] زرارة ومصعب بن عمير من الضلالة لتدينه بالشرك فقالا له : من شك فيه فليأتنا بأهدى منه .

ومنها قوله : هذا أمر لتحزن فيه الرقاب .

وفيه أن أول ما حضروا في الموسم وسمعوا كلامه والقرآن أيقنوا واطمأنت أنفسهم إلى دعوته وعرفوا ما سمعوا في ماضي الأيام من أهل الكتاب من صفته صلى الله عليه وسلم ، فدل ذلك على سرعة أخذ القرآن في قلوبهم .

ومنها : إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بصوت إبليس وأنه ليس يسمعه أحد ممن يخافون .

ومنها توطئة قريش متاع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما يبصرونهم فرجعوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية