الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
45 - أخبرنا محمد بن أحمد بن الحسن ، قال : ثنا الحسن بن الجهم ، قال : ثنا الحسين بن الفرج ، قال : ثنا محمد بن عمر الواقدي ، قال : حدثني محمد بن سعيد الثقفي ، وعبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان بن سهل بن حنيف ، وعبد الملك بن عيسى الثقفي ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي ، ومحمد بن يعقوب بن عتبة ، عن أبيه وغيرهم ، كل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة ، قال : قال المغيرة بن شعبة في خروجه إلى المقوقس مع بني مالك ، وإنهم لما دخلوا على المقوقس قال لهم : كيف خلصتم إلي من طلبتكم ، ومحمد وأصحابه بيني وبينكم ؟

قالوا : لصقنا بالبحر ، وقد خفناه على ذلك .

قال : كيف صنعتم فيما دعاكم إليه ؟

قالوا : ما تبعه منا رجل واحد . [ ص: 86 ]

قال : لم ؟

قالوا : " جاءنا بدين محدث لا تدين به الآباء ، ولا يدين به الملك ، ونحن على ما كان عليه آباؤنا .

قال : كيف صنع قومه ؟

قال : اتبعه أحداثهم ، وقد لاقاه من خالفه من قومه وغيرهم من العرب في مواطن ، مرة تكون عليهم الدبرة ، ومرة تكون له .

قال : ألا تخبرونني وتصدقونني ؟ إلى ماذا يدعو ؟

قالوا : يدعو إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له ، ونخلع ما كان يعبد الآباء ، ويدعو إلى الصلاة والزكاة .

قال : وما الصلاة والزكاة ؟ ألهما وقت يعرف ، وعدد ينتهي ؟

قالوا : يصلون في اليوم والليلة خمس صلوات ، كلها لمواقيت وعدد ، سموه له ، ويؤدون من كل مال بلغ عشرين مثقالا ، مثقالا ، وكل إبل بلغت خمسا شاة ، وأخبروه بصدقة الأموال كلها .

قال : أفرأيتم إذا أخذها أين يضعها ؟

قالوا : يردها على فقرائهم ، ويأمر بصلة الرحم ، ووفاء العهد ، وتحريم الربا والزنا والخمر ، ولا يأكل ما ذبح لغير الله تعالى .

قال : هو نبي مرسل إلى الناس كافة ، ولو أصاب القبط والروم تبعوه ، وقد أمرهم بذلك عيسى ابن مريم ، وهذا الذي تصفون منه بعث به الأنبياء من قبله ، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد ، ويظهر دينه إلى منتهى [ ص: 87 ] الخف والحافر ، ومنقطع البحور ، ويوشك قومه يدافعونه بالرماح .

قال : قلنا : لو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا .

قال : فأنغض رأسه وقال : أنتم في اللعب ، ثم قال : كيف نسبه في قومه ؟

قلنا : هو أوسطهم نسبا .

قال : كذلك المسيح والأنبياء عليهم السلام تبعث في نسب قومها .

قال : كيف صدقه في حديثه ؟

قال : قلنا : ما يسمى إلا الأمين من صدقه .

قال : انظروا في أمركم ، أترونه يصدق فيما بينكم وبينه ويكذب على الله ؟

قال : فمن تبعه ؟

قلنا : الأحداث .

قال : هم - والمسيح - أتباع الأنبياء قبله ، قال : فما فعلت يهود يثرب ؟ فهم أهل التوراة ، قلنا : خالفوه ، فأوقع بهم ، فقتلهم ، وسباهم ، وتفرقوا في كل وجه .

قال : هم حسدة حسدوه ، أما أنهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف .

قال المغيرة : فقمنا من عنده ، وقد سمعنا كلاما ذللنا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وخضعنا ، وقلنا : ملوك العجم يصدقونه ، ويخافونه في بعد أرحامهم منه ، ونحن أقرباؤه وجيرانه لم ندخل معه ! ! قد جاءنا داعيا إلى منازلنا ، قال المغيرة : فرجعنا إلى منازلنا ، فأقمت بالإسكندرية لا أدع كنيسة إلا دخلتها [ ص: 88 ] ، وسألت أساقفها ، من قبطها ورومها ، عما يجدون من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان أسقف من القبط هو رأس كنيسة أبي غنى ، كانوا يأتونه بمرضاهم ، فيدعو لهم ، لم أر أحدا قط يصلي الصلوات الخمس أشد اجتهادا منه ، فقلت : أخبرني هل بقي أحد من الأنبياء ؟

قال : نعم ، وهو آخر الأنبياء ، ليس بينه وبين عيسى ابن مريم أحد ، وهو نبي قد أمرنا عيسى باتباعه ، وهو النبي الأمي العربي ، اسمه أحمد ، ليس بالطويل ولا بالقصير ، في عينيه حمرة ، ليس بالأبيض ولا بالآدم ، يعفي شعره ، ويلبس ما غلظ من الثياب ، ويجتزئ بما لقي من الطعام ، سيفه على عاتقه ، ولا يبالي من لاقى ، يباشر القتال بنفسه ومع أصحابه ، يفدونه بأنفسهم ،
هم له أشد حبا من أولادهم وآبائهم ، يخرج من أرض القرظ ، ومن حرم يأتي إلى حرم ، يهاجر إلى أرض سباخ ونخل ، يدين بدين إبراهيم عليه السلام .

قال المغيرة بن شعبة : زدني في صفته ، قال : يأتزر على وسطه ، ويغسل أطرافه ، ويخص بما لم يخص به الأنبياء قبله ، كان النبي يبعث إلى قومه ، وبعث إلى الناس كافة ، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا ، أينما أدركته الصلاة تيمم وصلى ، ومن كان قبله مشددا عليهم لا يصلون إلا في الكنائس والبيع . [ ص: 89 ]

قال المغيرة : فوعيت ذلك كله ، من قوله وقول غيره ، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت ، وأخبرته بما قال الملك وقالت الأساقفة الذين كنت أسائلهم وأسمع منهم من رؤساء القبط والروم ، وأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحب أن يسمعه أصحابه ، فكنت أحدثهم ذلك في اليومين والثلاثة .

قال الشيخ : ونعوته وصفاته في الكتب المنزلة ، وعند الرهابنة والأساقفة والأحبار من أهل الكتابين مستفيض ، وكانوا يرجعون في أمر بعثته وإرساله إلى علم متيقن كالضروري ؛ لتبشير الأنبياء صلوات الله عليهم به وبإرساله ، وإيصائهم أمتهم بتصديقه إن أدركته ، وما كانت في أيديهم من الكتب والعهود المتقدمة المتواترة عن آبائهم وأسلافهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية