وقرأ العامة "أنها" بفتح الهمزة، وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنه بكسرها. فأما على قراءة الكسر فواضحة استجودها الناس: وأبو بكر وغيره; لأن معناها استئناف إخبار بعدم إيمان من طبع على قلبه ولو جاءتهم كل آية. قال الخليل سألت سيبويه: عن هذه القراءة - يعني [ ص: 102 ] قراءة الفتح- فقلت: ما منع أن يكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع، إنما قال "وما يشعركم"، ثم ابتدأ فأوجب فقال إنهآ إذا جآءت لا يؤمنون ولو فتح فقال: الخليل وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون لكان عذرا لهم. وقد شرح الناس قول وأوضحوه فقال الخليل وغيره: لأنك لو فتحت "أن" وجعلتها التي في نحو "بلغني أن زيدا منطلق" لكان عذرا لمن أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون، لأنه إذا قال القائل: "إن زيدا لا يؤمن" فقلت: وما يدريك أن لا يؤمن، كان المعنى أنه يؤمن، وإذا كان كذلك كان عذرا لمن نفى عنه الإيمان، وليس مراد الآية الكريمة إقامة عذرهم ووجود إيمانهم. وقال الواحدي وقرئ "إنها" بالكسر، على أن الكلام قد تم قبله بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون. الزمخشري:
وأما قراءة الفتح فقد وجهها الناس على ستة أوجه، أظهرها: أنها بمعنى لعل، حكى "أتيت السوق أنك تشتري لنا منه شيئا" أي: لعلك، فهذا من كلام الخليل: العرب كما حكاه شاهد على كون "أن" بمعنى لعل، وأنشد الخليل أبو جعفر النحاس:
2027 - أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
قال امرؤ القيس: أنشده الزمخشري
2028 - عوجا على الطلل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن حذام
2029 - هل أنتم عائجون بنا لعنا نرى العرصات أو أثر الخيام
وقال عدي بن زيد:
2030 - أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
وقال آخر:
2032 - قلت لشيبان ادن من لقائه أنا نغذي الناس من شوائه
فـ "أن" في هذه المواضع كلها بمعنى لعل، قالوا: ويدل على ذلك أنها في مصحف وقراءته "وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون" ونقل عنه: وما يشعركم لعلها إذا جآءت ، ذكر ذلك أبي وغيره، ورجحوا ذلك أيضا بأن "لعل" قد كثر ورودها في مثل هذا التركيب كقوله تعالى: أبو عبيد، وما يدريك لعل الساعة قريب ، وما يدريك لعله يزكى وممن جعل "أن" بمعنى "لعل" أيضا يحيى بن زياد الفراء.
ورجح ذلك، فقال: "زعم الزجاج عن سيبويه أن معناها "لعلها" قال: "وهذا الوجه أقوى في العربية وأجود "، ونسب القراءة لأهل [ ص: 104 ] الخليل المدينة، وكذا قلت: وقراءة الكوفيين والشاميين أيضا، إلا أن أبو جعفر. ضعف هذا القول الذي استجوده الناس وقووه تخريجا لهذه القراءة فقال: "التوقع الذي تدل عليه "لعل" لا يناسب قراءة الكسر لأنها تدل على حكمه تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون"، ولكنه لما منع كونها بمعنى "لعل" لم يجعلها معمولة لـ "يشعركم" بل جعلها على حذف لام العلة أي لأنها، والتقدير عنده: قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، فهو لا يأتي بها لإصرارهم على كفرهم، فيكون نظير أبا علي الفارسي وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون أي بالآيات المقترحة، وعلى هذا فيكون قوله "وما يشعركم" اعتراضا بين العلة والمعلول.
الثاني: أن تكون "لا" مزيدة، وهذا رأي وشيخه قال: ومثله الفراء ما منعك ألا تسجد أي: أن تسجد، فيكون التقدير: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، والمعنى على هذا: أنها لو جاءت لم يؤمنوا، وإنما حملها على زيادتها ما تقدم من أنها لو تقدر زائدة لكان ظاهر الكلام عذرا للكفار وأنهم يؤمنون، كما عرفت تحقيقه أولا. إلا أن نسب ذلك إلى الغلط فقال: والذي ذكر أن "لا" لغو غالط، لأن ما يكون لغوا لا يكون غير لغو، ومن قرأ بالكسر فالإجماع على أن "لا" غير لغو. فليس يجوز أن يكون معنى لفظة مرة النفي ومرة الإيجاب في سياق واحد. الزجاج
وانتصر لقول الفارسي ونفى عنه الغلط، فإنه قال: يجوز أن [ ص: 105 ] تكون "لا" في تأويل زائدة، وفي تأويل غير زائدة كقول الشاعر: الفراء
2032 - أبى جوده لا البخل واستعجلت نعم به من فتى لا يمنع الجود نائله
ينشد بالوجهين أي بنصب "البخل" وجره، فمن نصبه كانت زائدة أي: أبى جوده البخل، ومن خفض كانت غير زائدة وأضاف "لا" إلى البخل قلت: وعلى تقدير النصب لا يلزم زيادتها لجواز أن تكون "لا" مفعولا بها والبخل بدلا منها أي: أبى جوده لفظ "لا"، ولفظ "لا" هو بخل.
وقد تقدم لك طرف من هذا محققا عند قوله تعالى ولا الضالين في أوائل هذا الموضوع، وسيمر بك مواضع منها، كقوله تعالى: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون قالوا: تحتمل الزيادة وعدمها، وكذا ما منعك ألا تسجد ، لئلا يعلم أهل الكتاب .
الثالث: أن الفتح على تقدير لام العلة، والتقدير: إنما الآيات التي يقترحونها عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، وما يشعركم اعتراض، كما تقدم تحقيق ذلك عن فأغنى عن إعادته، وصار المعنى: إنما الآيات عند الله أي: المقترحة لا يأتي بها لانتفاء إيمانهم وإصرارهم على كفرهم. أبي علي
الرابع: أن في الكلام حذف معطوف على ما تقدم. قال في معانيه: "وقيل في الكلام حذف، المعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت [ ص: 106 ] لا يؤمنون أو يؤمنون" فحذف هذا لعلم السامع، وقدره غيره: ما يشعركم بانتفاء الإيمان أو وقوعه. أبو جعفر
الخامس: أن "لا" غير مزيدة، وليس في الكلام حذف بل المعنى: وما يدريكم انتفاء إيمانهم، ويكون هذا جوابا لمن حكم عليهم بالكفر أبدا ويئس من إيمانهم. وقال "وما يشعركم وما يدريكم أنها - أن الآيات التي يقترحونها - إذا جاءت لا يؤمنون بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك، وذلك أن المؤمنين كانوا حريصين على إيمانهم وطامعين فيه إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال عز وجل: " وما يدريكم أنهم لا يؤمنون " على معنى: أنكم لا تدرون ما سبق علمي بهم أنهم لا يؤمنون، ألا ترى إلى قوله: الزمخشري: كما لم يؤمنوا به أول مرة انتهى. قلت بسط قوله إنهم كانوا يطمعون في إيمانهم ما جاء في التفسير أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل علينا الآية التي قال الله فيها إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ونحن والله نؤمن فأنزل الله تعالى: وما يشعركم إلى آخرها . وهذا الوجه هو اختيار الشيخ فإنه قال: ولا يحتاج الكلام إلى زيادة "لا" ولا إلى هذا الإضمار "- يعني حذف المعطوف -" ولا إلى "أن" بمعنى لعل، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير ضرورة، بل حمله على الظاهر أولى وهو واضح سائغ أي: وما يشعركم ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها.
السادس: أن "ما" حرف نفي، يعني أنه نفى شعورهم بذلك، وعلى هذا فيطلب لـ "يشعركم" فاعل.
فقيل: هو ضمير الله تعالى أضمر للدلالة عليه، وفيه تكلف بعيد أي: وما يشعركم الله أنها إذا جاءت الآيات المقترحة [ ص: 107 ] لا يؤمنون. وقد تقدم في البقرة كيفية قراءة لـ أبي عمرو يشعركم و " ينصركم " ونحوهما عند قوله إن الله يأمركم ، وحاصلها ثلاثة أوجه: الضم الخالص، والاختلاس، والسكون المحض.
وقرأ الجمهور: "لا يؤمنون" بياء الغيبة، وابن عامر بتاء الخطاب، وقرآ أيضا في الجاثية وحمزة فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون بالخطاب، وافقهما عليها الكسائي عن وأبو بكر والباقون بالياء للغيبة، فتحصل من ذلك أن عاصم، ابن عامر يقرآن بالخطاب في الموضعين، وأن وحمزة نافعا وابن كثير وأبا عمرو وحفصا عن بالغيبة في الموضعين، وأن عاصم الكسائي عن وأبا بكر بالغيبة هنا وبالخطاب في الجاثية، فقد وافقا أحد الفريقين في إحدى السورتين والآخر في أخرى. عاصم
فأما قراءة الخطاب هنا فيكون الظاهر من الخطاب في قوله وما يشعركم أنه للكفار، ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة "لا" أي: وما يشعركم أنكم تؤمنون إذا جاءت الآيات التي طلبتموها كما أقسمتم عليه ويتضح أيضا على كون "أن" بمعنى لعل مع كون "لا" نافية، وعلى كونها علة بتقدير حذف اللام أي: إنما الآيات عند الله فلا يأتيكم بها; لأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ويتضح أيضا على كون المعطوف محذوفا أي: وما يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءت الآيات أو وقوعها، لأن مآل أمركم مغيب عنكم فكيف تقسمون على الإيمان عند مجيء الآيات؟ وإنما يشكل إذا جعلنا "أن" معمولة [ ص: 108 ] لـ "يشعركم" وجعلنا "لا" نافية غير زائدة، إذ يكون المعنى: وما يدريكم أيها المشركون بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم، ويزول هذا الإشكال بأن المعنى: أي شيء يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءتكم الآيات التي اقترحتموها؟ يعني لا يمر هذا بخواطركم، بل أنتم جازمون بالإيمان عند مجيئها لا يصدكم عنه صاد، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون وقت مجيئها لأنكم مطبوع على قلوبكم.
وأما على قراءة الغيبة فتكون الهمزة معها مكسورة، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر عن ومفتوحة وهي قراءة عاصم، نافع والكسائي وحفص عن عاصم.
فعلى قراءة ومن معه يكون الخطاب في "وما يشعركم" جائزا فيه وجهان، أحدهما: أنه خطاب للمؤمنين أي: وما يشعركم أيها المؤمنون إيمانهم، ثم استأنف إخبارا عنهم بأنهم لا يؤمنون فلا تطمعوا في إيمانهم والثاني: أنه للكفار أي: وما يشعركم أيها المشركون ما يكون منكم، ثم استأنف إخبارا عنهم بعدم الإيمان لعلمه السابق فيهم، وعلى هذا ففي الكلام التفات من خطاب إلى غيبة. ابن كثير
وعلى قراءة يكون الخطاب للكفار، وتكون "أن" بمعنى لعل، كذا قاله نافع أبو شامة وغيره.
وقال الشيخ في هذه القراءة: "الظاهر أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى: وما يدريكم أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون" يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ثم ساق كلام بعينه الذي قدمت ذكره عنه في الوجه الخامس قال: "ويبعد جدا أن يكون الخطاب في "وما يشعركم" للكفار" . قلت: إنما استبعده لأنه لم ير في "أن" هذه أنها بمعنى لعل كما حكيته عنه. وقد جعل الشيخ في مجموع الزمخشري أنها إذا جاءت لا يؤمنون بالنسبة إلى كسر الهمزة وفتحها والخطاب والغيبة أربع [ ص: 109 ] قراءات قال: وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والعليمي والأعشى عن أبي بكر، وقال ابن عطية: ابن كثير وأبو عمرو في رواية وعاصم داود الإيادي: إنها بكسر الهمزة، وقرأ باقي السبعة بفتحها، وقرأ ابن عامر "لا تؤمنون" بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة، فترتب أربع قراءات: الأولى: كسر الهمزة والياء وهي قراءة وحمزة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة، ثم قال:القراءة الثانية: كسر الهمزة والتاء وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة كأنه قيل: وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم؟ ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها، ويبعد جدا أن يكون الخطاب في "وما يشعركم" للمؤمنين وفي "تؤمنون" للكفار. ثم ذكر القراءة الثالثة نظر لا يخفى: وذلك أنه لما حكى قراءة الخطاب في "تؤمنون" لم يحكها إلا عن عاصم، حمزة فقط، ولم يدخل معهما وابن عامر لا من طريق أبو بكر العليمي والأعشى ولا من طريق غيرهما، والفرض أن حمزة يفتحان همزة "أنها" ، وابن عامر يكسرها ويفتحها، ولكنه لا يقرأ "يؤمنون" إلا بياء الغيبة فمن أين تجيء لنا قراءة بكسر الهمزة والخطاب؟ وإنما أتيت بكلامه برمته ليعرف المأخذ عليه ثم إني جوزت أن تكون هذه رواية رواها فكشفت كتابه في القراءات، وكان قد أفرد فيه فصلا انفرد به وأبو بكر في روايته، فلم يذكر أنه قرأ "تؤمنون" بالخطاب البتة، ثم كشفت كتبا في القراءات عديدة فلم أرهم ذكروا [ ص: 110 ] ذلك، فعرفت أنه لما رأى للهمزة حالتين ولحرف المضارعة في "يؤمنون" حالتين ضرب اثنين في اثنين فجاء من ذلك أربع قراءات ولكن إحداهما مهملة. العليمي
وقوله "لا يؤمنون" متعلقه محذوف للعلم به أي: لا يؤمنون بها.
قوله: ونقلب في هذه الجملة وجهان، أحدهما: - ولم يقل غيره- أنها وما عطف عليها من قوله "ويذرهم" عطف على "يؤمنون" داخل في حكم وما يشعركم، بمعنى: وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم، وما يشعركم أنا نذرهم. وهذا يساعده ما جاء في التفسير عن الزمخشري ابن عباس ومجاهد وابن زيد، والثاني: أنها استئناف إخبار، وجعله الشيخ الظاهر، والظاهر ما تقدم.