الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (100) قوله تعالى: أولم يهد : قرأ الجمهور "يهد" بالياء من تحت. وفي فاعله حينئذ ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه المصدر المؤول من "أن" وما في حيزها، والمفعول محذوف والتقدير: أو لم يهد أي: يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم وإصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك، فقد سبكنا المصدر من "أن" ومن جواب لو. الثاني. أن الفاعل هو ضمير الله تعالى أي: أو لم يبين الله، ويؤيده قراءة من قرأ "نهد" بالنون. الثالث: أنه ضمير عائد على ما يفهم من سياق الكلام أي: أو لم يهد ما جرى للأمم السابقة كقولهم: "إذا كان غدا فأتني" أي: إذا كان ما بيني وبينك مما دل عليه السياق. وعلى هذين الوجهين فـ "أن" وما في حيزها بتأويل مصدر كما تقدم في محل المفعول والتقدير: أو لم يبين ويوضح الله أو ما جرى للأمم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك. [ ص: 394 ] وقرأ مجاهد "نهد" بنون العظمة و "أن" مفعول فقط، و "أن" هي المخففة من الثقيلة، "ولو" فاصلة بينها وبين الفعل، وقد تقدم أن الفصل بها قليل. و "نشاء" وإن كان مضارعا لفظا فهو ماض معنى; لأن "لو" الامتناعية تخلص المضارع للمضي. وفي كلام ابن الأنباري خلافه فإنه قال في "ونطبع" : هذا فعل مستأنف ومنقطع مما قبله، لأن قوله "أصبنا" ماض و "نطبع" مستقبل ثم قال: ويجوز أن يكون معطوفا على "أصبنا" إذ كان بمعنى نصيب، والمعنى: لو يشاء يصيبهم ويطبع، فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كقوله تعالى: إن شاء جعل لك أي: يجعل، بدليل قوله "ويجعل لك" . قلت: فهذا ظاهر قوي في أن "لو" هذه لا تخلص المضارع للمضي، وتنظيره بالآية الأخرى مقو له أيضا، وسيأتي تحقيق ذلك عند قوله "ونطبع" .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفراء: وجاز أن ترد "يفعل" على فعل في جواب "لو" كقوله: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر قوله: "فنذر" مردود على "لقضي". قلت: وهذا هو قول الجمهور، ومفعول "يشاء" محذوف لدلالة جواب "لو" عليه، والتقدير: لو يشاء تعذيبهم أو الانتقام منهم. وأتى جوابها بغير لام وإن كان مبنيا على أحد الجائزين، وإن كان الأكثر خلافه، كقوله تعالى: لو نشاء جعلناه أجاجا . [ ص: 395 ] قوله: ونطبع في هذه الجملة أوجه، أحدها: أنها نسق على "أصبناهم" وجاز عطف المضارع على الماضي لأنه بمعناه وقد تقدم أن "لو" تخلص المضارع للمضي، ولما حكى الشيخ كلام ابن الأنباري المتقدم قال: فجعل "لو" شرطية بمعنى "إن" ولم يجعلها التي هي "لما" كان سيقع لوقوع غيره، ولذلك جعل "أصبنا" بمعنى نصيب. ومثال وقوع "لو" بمعنى "إن" قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2253 - لا يلفك الراجيك إلا مظهرا خلق الكرام ولو تكون عديما



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي قاله ابن الأنباري رده الزمخشري من حيث المعنى، لكن بتقدير أن يكون "ونطبع" بمعنى طبعنا، فيكون قد عطف المضارع على الماضي لكونه بمعنى الماضي، وابن الأنباري جعل التأويل في "أصبنا" الذي هو جواب "لو نشاء"، فجعله بمعنى نصيب، فتأول المعطوف عليه وهو جواب "لو نشاء"، فجعله بمعنى نصيب، فتأول المعطوف ورده إلى المضي، وأنتج رد الزمخشري أن كلا التقديرين لا يصح.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن يكون "ونطبع" بمعنى طبعنا، كما كان "لو نشاء" بمعنى لو شئنا، ويعطف على "أصبناهم"؟ قلت: لا يساعد على المعنى، لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم، موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها، وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم من هذه الصفة، وأن الله لو شاء لاتصفوا بها . قال الشيخ: وهذا الرد [ ص: 396 ] ظاهره الصحة، وملخصه أن المعطوف على الجواب جواب سواء تأولنا المعطوف عليه أم المعطوف، وجواب "لو" لم يقع بعد، سواء كانت حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى "إن" الشرطية، والإصابة لم تقع، والطبع على القلوب واقع فلا يصح أن تعطف على الجواب. فإن تؤول "ونطبع" على معنى: ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأن الاستمرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع" . قلت: فهذا الوجه الأول ممتنع لما ذكره الزمخشري.

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني: أن يكون "نطبع" مستأنفا ومنقطعا عما قبله فهو في نية خبر مبتدأ محذوف أي: ونحن نطبع. وهذا اختيار أبي إسحاق والزمخشري وجماعة.

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث: أن يكون معطوفا على "يرثون الأرض" قاله الزمخشري. قال الشيخ: وهو خطأ لأن المعطوف على الصلة صلة و "يرثون" صلة للذين، فيلزم الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي، فإن قوله "أن لو نشاء": إما فاعل ليهد أو مفعوله كما تقدم، وعلى كلا التقديرين فلا تعلق له بشيء من الصلة، وهو أجنبي منها فلا يفصل به بين أبعاضها، وهذا الوجه مؤد على ذلك فهو خطأ.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن يكون معطوفا على ما دل عليه معنى "أو لم يهد لهم" كأنه قيل: يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم. قاله الزمخشري أيضا. قال [ ص: 397 ] الشيخ: وهو ضعيف; لأنه إضمار لا يحتاج إليه، إذ قد صح عطفه على الاستئناف من باب العطف على الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام، وقد قاله الزمخشري وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فهم لا يسمعون أتى بالفاء هنا إيذانا بتعقيب عدم سماعهم على أثر الطبع على قلوبهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية