الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (59) قوله تعالى: ولا يحسبن : قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم "يحسبن" بياء الغيبة هنا، وفي النور في قوله: " لا يحسبن [ ص: 623 ] الذين كفروا معجزين في الأرض " كذلك خلا حفصا. والباقون بتاء الخطاب.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قراءة الغيبة تخريجات كثيرة سبق نظائرها في أواخر آل عمران. ولا بد من ذكر ما ينبهك هنا على ما تقدم فمنها: أن الفعل مسند إلى ضمير يفسره السياق تقديره: ولا يحسبن هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو حاسب، أو يكون الضمير عائدا على من خلفهم. وعلى هذه الأقوال فيجوز أن يكون "الذين كفروا" مفعولا أول، و "سبقوا" جملة في محل نصب مفعولا ثانيا. وقيل: الفعل مسند إلى "الذين كفروا" ثم اختلفوا هؤلاء في المفعولين: فقال قوم: الأول محذوف تقديره: ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا، فـ "هم" مفعول أول، و "سبقوا" في محل الثاني، أو يكون التقدير: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا، وهو في المعنى كالذي قبله. وقال قوم: بل "أن" الموصولة محذوفة، وهي وما في حيزها سادة مسد المفعولين، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، فحذفت "أن" الموصولة وبقيت صلتها كقوله ومن آياته يريكم ، أي: أن يريكم وقولهم: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2434 - ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله "أنهم سبقوا". وقال قوم: بل "سبقوا" في [ ص: 624 ] محل نصب على الحال، والساد مسد المفعولين "أنهم لا يعجزون" في قراءة من قرأ بفتح "أنهم" وهو ابن عامر، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا سابقين أنهم لا يعجزون، وتكون "لا" مزيدة ليصح المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري بعد ذكره هذه الأوجه: "وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة". وقد رد عليه جماعة هذا القول وقالوا: لم ينفرد بها حمزة بل وافقه عليها من قراء السبعة ابن عامر أسن القراء وأعلاهم إسنادا، وعاصم في رواية حفص، ثم هي قراءة أبي جعفر المدني شيخ نافع وأبي عبد الرحمن السلمي وابن محيصن وعيسى والأعمش والحسن البصري وأبي رجاء وطلحة وابن أبي ليلى. وقد رد الشيخ عليه أيضا أن "لا يحسبن" واقع على "أنهم لا يعجزون" وتكون "لا" صلة بأنه لا يتأتى على قراءة حمزة، فإن حمزة يقرأ بكسر الهمزة يعني فكيف تلتئم قراءة حمزة على هذا التخريج؟ قلت: هو لم يلتزم التخريج على قراءة حمزة في الموضعين: أعني "لا يحسبن" وقولهم "أنهم لا يعجزون" حتى نلزمه ما ذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الخطاب فواضحة أي: لا تحسبن يا محمد أو يا سامع، و "الذين كفروا" مفعول أول، والثاني "سبقوا"، وكان قد تقدم في آل عمران وجه: أنه يجوز أن يكون الفاعل الموصول، وإنما أتى بتاء التأنيث لأنه بمعنى القوم كقوله: كذبت قوم نوح ، وتقدم لك فيه بحث وهو عائد ههنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الباقين في النور ففيها ما ذكر ههنا إلا الوجه الذي فيه تقدير "أن" الموصولة لتعذر ذلك، ولكن يخلفه وجه آخر لا يتأتى ههنا: وهو أن يكون [ ص: 625 ] "الذين كفروا" فاعلا، و "معجزين" مفعول أول و "في الأرض" الثاني. أي: لا تحسبوا أحدا يعجز الله في الأرض أي بقوته. وأما قراءة الخطاب فواضحة على ما قدمته لك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش: "ولا يحسب الذين كفروا" بفتح الباء. وتخريجها أن الفعل مؤكد بنون التوكيد الخفيفة، فحذفها لالتقاء الساكنين، كما يحذف له التنوين فهو كقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2435 - لا تهين الفقير علك أن تر     كع يوما والدهر قد رفعه



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لا تهينن. ونقل بعضهم: "ولا تحسب الذين" من غير توكيد البتة. وهذه القراءة بكسر الباء على أصل التقاء الساكنين.

                                                                                                                                                                                                                                      قولهم: إنهم لا يعجزون قرأ ابن عامر بالفتح، والباقون بالكسر. فالفتح: إما على حذف لام العلة، أي: لأنهم. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر. ووجه الاستبعاد أنها تعليل للنهي أي: لا تحسبنهم فائتين لأنهم لا يعجزون، أي: لا يقع منك حسبان لقولهم لأنهم لا يعجزون، وإما على أنها بدل من مفعول الحسبان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء: إنه متعلق بتحسب: إما مفعول أو بدل من "سبقوا"، وعلى كلا الوجهين تكون "لا" زائدة. وهو ضعيف لوجهين: [ ص: 626 ] أحدهما: زيادة لا، والثاني: أن مفعول "حسب" إذا كان جملة وكان مفعولا ثانيا كانت "إن" فيه مكسورة لأنه موضع ابتداء وخبر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: لا يعجزون العامة بنون واحدة خفيفة مفتوحة وهي نون الرفع. وقرأ ابن محيصن "يعجزوني" بنون واحدة بعدها ياء المتكلم، وهي نون الوقاية أو نون الرفع. وقد تقدم الخلاف في ذلك في سورة الأنعام في أتحاجوني . قال الزجاج: الاختيار الفتح في النون، ويجوز كسرها على أن المعنى: لا يعجزونني، وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين كما قال عمر بن أبي ربيعة:


                                                                                                                                                                                                                                      2436 - تراه كالثغام يعل مسكا     يسوء الفاليات إذا فليني



                                                                                                                                                                                                                                      وقال متمم بن نويرة:


                                                                                                                                                                                                                                      2437 - ولقد علمت ولا محالة أنني     للحادثات فهل تريني أجزع



                                                                                                                                                                                                                                      قال الأخفش في هذا البيت: "فهذا يجوز على الاضطرار".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن محيصن أيضا "يعجزون" بنون مشددة مكسورة، أدغم نون الرفع في نون الوقاية وحذف ياء الإضافة مجتزئا عنها بالكسرة. وعنه أيضا فتح العين وتشديد الجيم وكسر النون، من "عجز" مشددا. قال أبو جعفر: [ ص: 627 ] وهذا خطأ من وجهين أحدهما: أن معنى عجزه ضعفه وضعف أمره، والآخر: كان يجب أن يكون بنونين. قلت: أما تخطئة النحاس له فخطأ، لأن الإتيان بالنونين ليس بواجب، بل هو جائز، وقد قرئ به في مواضع في المتواتر سيأتي بعضها. وأما عجز بالتشديد فليس معناه مقتصرا على ما ذكر بل نقل غيره من أهل اللغة أن معناه نسبتي إلى العجز، وأن معناه بطأ وثبط، والقراءة معناها لائق بأحد المعنيين. وقرأ طلحة بكسر النون خفيفة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية