الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (158) وقوله تعالى: أو يأتي ربك : تقدم أنه على حذف [ ص: 232 ] مضاف. وقرأ الأخوان: إلا أن يأتيهم الملائكة بياء منقوطة من تحت لأن التأنيث مجازي وهو نظير فناداه الملائكة . وأبو العالية وابن سيرين: "يوم تأتي بعض" بالتأنيث كقوله تلتقطه بعض السيارة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: يوم يأتي الجمهور على نصب "اليوم"، وناصبه ما بعد "لا"، وهذا على أحد الأقوال الثلاثة في "لا" وهي أنها يتقدم معمول ما بعدها عليها مطلقا، ولا يتقدم مطلقا، ويفصل في الثالث: بين أن يكون جواب قسم فيمتنع، أو لا فيجوز. وقرأ زهير الفرقبي "يوم" بالرفع وهو مبتدأ، وخبره الجملة بعده، والعائد منها إليه محذوف أي: لا تنفع فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور "ينفع" بالياء من تحت. وقرأ ابن سيرين: تنفع بالتاء من فوق. قال أبو حاتم: "ذكروا أنه غلط". قلت: وذلك لأن الفعل مسند لمذكر، وجوابه أنه لما اكتسب بالإضافة التأنيث أجرى عليه حكمه كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2129 - وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم لك تحقيق هذا في أول السورة، وأنشد سيبويه على ذلك:


                                                                                                                                                                                                                                      2130 - مشين كما اهتزت رماح تسفهت     أعاليها مر الرياح النواسم

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 233 ] وقيل: لأن الإيمان بمعنى العقيدة فهو كقولهم: "أتته كتابي فاحتقرها" أي: صحيفتي ورسالتي. وقال النحاس: "في هذا شيء دقيق ذكره سيبويه: وذلك أن الإيمان والنفس كل منهما مشتمل على الآخر فأنث الإيمان إذ هو من النفس وبها". وأنشد سيبويه "مشين كما اهتزت" البيت. وقال الزمخشري في هذه القراءة: لكون الإيمان مضافا إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولهم: "ذهبت بعض أصابعه". قال الشيخ: "وهو غلط; لأن الإيمان ليس بعضا للنفس". قلت: قد تقدم آنفا ما يشهد لصحة هذه العبارة من كلام النحاس في قوله عن سيبويه: "وذلك أن الإيمان والنفس كل منهما مشتمل على الآخر، فأنث الإيمان إذ هو من النفس وبها"، فلا فرق بين هاتين العبارتين، أي لا فرق بين أن يقول هو منها وبها أو هو بعضها، والمراد في العبارتين المجاز.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لم تكن آمنت" في هذه الجملة ثلاثة أوجه أحدها: أنها في محل نصب لأنها نعت لنفسا، وفصل بالفاعل وهو "إيمانها" بين الصفة وموصوفها لأنه ليس بأجنبي، إذ قد اشترك الموصوف الذي هو المفعول والفاعل في العامل، فعلى هذا يجوز: "ضرب هندا غلامها القرشية" وقوله: "أو كسبت" عطف على "لم تكن آمنت".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الآية بحوث حسنة تتعلق بعلم العربية، وعليها تبنى مسائل من أصول الدين، وذلك أن المعتزلي يقول: مجرد الإيمان الصحيح لا يكفي بل لا بد من انضمام عمل يقترن به ويصدقه، واستدل بظاهر هذه الآية، وذلك [ ص: 234 ] كما قال الزمخشري: "لم تكن آمنت من قبل" صفة لقوله "نفسا" وقوله "أو كسبت في إيمانها خيرا" عطفت على "آمنت" والمعنى: أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة مضطرة ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها قبل ظهور الآيات أو مقدمة إيمانها غير كاسبة خيرا في إيمانها، فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيرا ليعلم أن قوله " الذين آمنوا وعملوا الصالحات " جمع بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى حتى يفوز صاحبهما ويسعد، وإلا فالشقوة والهلاك. وقد أجاب الناس عن هذا الظاهر بأن المعنى بالآية الكريمة: أنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفسا كافرة إيمانها الذي أوقعته إذ ذاك، ولا ينفع نفسا سبق إيمانها وما كسبت فيه خيرا، فقد علق نفع نفي الإيمان بأحد وصفين: إما نفي سبق الإيمان فقط وإما سبقه مع نفي كسب الخير، ومفهومه أنه ينفع الإيمان السابق وحده أو السابق ومعه الخير، ومفهوم الصفة قوي فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة فقد قلبوا دليلهم دليلا عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أجاب القاضي ناصر الدين بن المنير عن قول الزمخشري فقال: "قال أحمد: هو يروم الاستدلال على أن الكافر والعاصي في الخلود سواء حيث سوى في الآية بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات، ولا يتم ذلك، فإن هذا الكلام في البلاغة يلقب باللف وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل ما تكسبه من الخير بعد، فلف الكلامين فجعلهما [ ص: 235 ] كلاما واحدا إيجازا وبلاغة، ويظهر بذلك أنها لا تخالف مذهب الحق فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير وإن نفع الإيمان المتقدم من الخلود، فهي بالرد على مذهبه أولى من أن تدل له".

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن هذه الجملة في محل نصب على الحال من الضمير المجرور، قاله أبو البقاء يعني من "ها" في إيمانها. الثالث: أن تكون مستأنفة. وبهذا بدأ أبو البقاء وثنى بالحال، وجعل الوصف ضعيفا كأنه استشعر ما ذكره الزمخشري ففر من جعلها نعتا، والشيخ جعل الحال بعيدا والاستئناف أبعد منه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية