الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (105) قوله تعالى: وكذلك : الكاف في محل نصب نعتا لمصدر محذوف، فقدره الزجاج: "ونصرف الآيات مثل ما صرفناها فيما تلي عليكم" ، وقدره غيره: نصرف الآيات في غير هذه السورة تصريفا مثل التصريف في هذه السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وليقولوا" الجمهور على كسر اللام، وهي لام كي، والفعل بعدها منصوب بإضمار "أن" فهو في تأويل مصدر مجرور بها على ما عرف غير مرة، وسماها أبو البقاء وابن عطية لام الصيرورة كقوله تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وكقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2026 - لدوا للموت وابنوا للخراب . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لما صار أمرهم إلى ذلك عبر بهذه العبارة، والعلة غير مرادة في هذه الأمثلة، والمحققون يأبون جعلها للعاقبة والصيرورة، ويؤولون ما ورد من ذلك على المجاز. وجوز أبو البقاء فيها الوجهين: أعني كونها لام العاقبة أو العلة حقيقة فإنه قال: "واللام لام العاقبة أي: إن أمرهم يصير إلى هذا" [ ص: 94 ] وقيل: إنه قصد بالتصريف أن يقولوا درست عقوبة لهم، يعني فهذه علة صريحة وقد أوضح بعضهم هذا فقال: المعنى: يصرف هذه الدلائل حالا بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفرا، وتنبيه لبعضهم فيزدادوا إيمانا، ونحو: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا . وأبو علي جعلها في بعض القراءات لام الصيرورة، وفي بعضها لام العلة فقال: واللام في "ليقولوا" في قراءة ابن عامر ومن وافقه بمعنى: "لئلا يقولوا" أي: صرفت الآيات وأحكمت لئلا يقولوا هذه أساطير الأولين قديمة قد بليت وتكررت على الأسماع، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة. قلت: قراءة ابن عامر درست بوزن أكلت وسرقت فعلا ماضيا مسندا لضمير الآيات، وسيأتي تحقيق القراءات في هذه الكلمة متواترها وشاذها. قال الشيخ: وما أجازه من إضمار "لا" بعد اللام المضمر بعدها "أن" هو مذهب لبعض الكوفيين كما أضمروها بعد "أن" المظهرة في " أن تضلوا " ، ولا يجيز البصريون إضمار "لا" إلا في القسم على ما تبين فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم هذه اللام لا بد لها من متعلق، فقدره الزمخشري وغيره متأخرا. قال الزمخشري: "وليقولوا" جوابه محذوف تقديره: وليقولوا درست نصرفها. فإن قلت: أي فرق بين اللامين في ليقولوا ولنبينه؟ قلت: الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صرفت للتبيين، ولم تصرف ليقولوا دارست، ولكن لأنه لما حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل للتبيين شبه به فسيق مساقه، وقيل: ليقولوا كما قيل لنبيه. قلت: فقد نص هنا [ ص: 95 ] على أن لام "ليقولوا" علة مجازية.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز بعضهم أن تكون هذه اللام نسقا على علة محذوفة. قال ابن الأنباري: دخلت الواو في "وليقولوا" عطفا على مضمر، التقدير: وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا . قلت: وعلى هذا فاللام متعلقة بفعل التصريف من حيث المعنى ولذلك قدره من قدره متأخرا بـ "نصرف" . وقال الشيخ: ولا يتعين ما ذكره المعربون والمفسرون من أن اللام لام كي أو لام الصيرورة، بل الظاهر أنها لام الأمر والفعل مجزوم بها، ويؤيده قراءة من سكن اللام، والمعنى عليه يتمكن، كأنه قيل: وكذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون من كونها درستها وتعلمتها أو درست هي أي: بليت وقدمت، فإنه لا يحتفل بهم ولا يلتفت إلى قولهم، وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث بقولهم أي: نصرفها وليدعوا فيها ما شاؤوا، فإنه لا اكتراث بدعواهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه نظر من حيث إن المعنى على ما قاله الناس وفهموه، وأيضا فإن بعده ولنبينه وهو نص في لام كي، وأما تسكين اللام في القراءة الشاذة فلا يدل لاحتمال أن تكون لام كي سكنت إجراء للكلمة مجرى كتف وكبد. وقد رد الشيخ على الزمخشري حيث قال: "وليقولوا جوابه محذوف" فقال: "وتسميته ما يتعلق به قوله "وليقولوا" جوابا اصطلاح غريب، لا يقال في "جئت" من قولك "جئت لتقوم" إنه جواب" . قلت: هذه العبارة قد تكررت للزمخشري و سيأتي ذلك في قوله ولتصغى أيضا. وقال الشيخ هناك: "وهذا اصطلاح غريب" ، والذي يظهر أنه إنما يسمي هذا النحو جوابا لأنه يقع جوابا لسائل. تقول: أين الذي يتعلق به هذا الجار؟ فيجاب به، فسمي جوابا [ ص: 96 ] بهذا الاعتبار، وأضيف إلى الجار في قوله "وليقولوا" جوابه، لأن الإضافة [تقع] بأدنى ملابسة وإلا فكلام إمام يتكرر لا يحمل على فساد.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما القراءات التي في "درست" فثلاث في المتواتر: فقرأ ابن عامر "درست" بزنة ضربت، وابن كثير وأبو عمرو "دارست" بزنة قابلت أنت، والباقون "درست" بزنة ضربت أنت. فأما قراءة ابن عامر فمعناها بليت وقدمت وتكررت على الأسماع يشيرون إلى أنها من أحاديث الأولين كما قالوا أساطير الأولين.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة ابن كثير أبي عمرو فمعناها دارست يا محمد غيرك من أهل الأخبار الماضية والقرون الخالية حتى حفظتها فقلتها، كما حكى عنهم فقال: إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي. وفي التفسير: أنهم كانوا يقولون: هو يدارس سلمان وعداسا. وأما قراءة الباقين فمعناها حفظت وأتقنت بالدرس أخبار الأولين كما حكى عنهم وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا .

                                                                                                                                                                                                                                      أي تكرر عليها بالدرس ليحفظها. وقرئ هذا الحرف في الشاذ عشر قراءات أخر فاجتمع فيه ثلاث عشرة قراءة: فقرأ ابن عباس بخلاف عنه وزيد بن علي والحسن البصري وقتادة "درست" فعلا ماضيا مبنيا للمفعول مسندا لضمير الآيات، وفسرها ابن جني والزمخشري بمعنيين، في أحدهما إشكال. قال أبو الفتح: "يحتمل أن [ ص: 97 ] يراد عفت أو بليت" . وقال أبو القاسم: "بمعنى قرئت أو عفيت" . قال الشيخ: "أما معنى قرئت وبليت فظاهر; لأن درس بمعنى كرر القراءة متعد، وأما "درس" بمعنى بلي وانمحى فلا أحفظه متعديا ولا وجدنا فيمن وقفنا على شعره من العرب إلا لازما" . قلت: لا يحتاج هذا إلى استقراء فإن معناه [لا] يحتمل أن يكون متعديا إذ حدثه لا يتعدى فاعله فهو كقام وقعد، فكما أنا لا نحتاج في معرفة قصور قام وقعد إلى استقراء بل نعرفه بالمعنى فكذا هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "درست" فعلا ماضيا مشددا مبنيا للفاعل المخاطب، فيحتمل أن يكون للتكثير أي: درست الكتب الكثيرة كذبحت الغنم وقطعت الأثواب، وأن تكون للتعدية، والمفعولان محذوفان أي: درست غيرك الكتب وليس بظاهر، إذ التفسير على خلافه. وقرئ درست كالذي قبله إلا أنه مبني للمفعول أي: درسك غيرك الكتب، فالتضعيف للتعدية لا غير. وقرئ "دورست" مسندا لتاء المخاطب من دارس كقاتل، إلا أنه بني للمفعول فقلبت ألفه الزائدة واوا، والمعنى: دارسك غيرك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "دارست" بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل، وفي فاعله احتمالان، أحدهما: أنه ضمير الجماعة أضمرت وإن لم يجر لها ذكر لدلالة السياق عليها أي: دارستك الجماعة، يشيرون لأبي فكيهة وسلمان، وقد تقدم ذلك في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والثاني: ضمير الإناث على سبيل المبالغة أي: إن الآيات نفسها دارستك وإن كان المراد أهلها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "درست" بفتح الدال وضم الراء مسندا إلى ضمير الآيات وهو مبالغة في درست بمعنى بليت وقدمت وانمحت أي اشتد دروسها وبلاها. وقرأ أبي "درس" وفاعله ضمير النبي صلى الله عليه وسلم أو ضمير الكتاب [ ص: 98 ] بمعنى قرأه النبي وتلاه وكرر عليه، أو بمعنى بلي الكتاب وامحى، وهكذا في مصحف عبد الله درس.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن في رواية "درسن" فعلا ماضيا مسندا لنون الإناث هي ضمير الآيات، وكذا هي في بعض مصاحف ابن مسعود. وقرئ "درسن" الذي قبله إلا أنه بالتشديد بمعنى اشتد دروسها وبلاها كما تقدم. وقرئ "دارسات" جمع دارسة بمعنى قديمات، أو بمعنى ذات دروس نحو: عيشة راضية، وماء دافق، وارتفاعها على خبر ابتداء مضمر أي: هن دارسات، والجملة في محل نصب بالقول قبلها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله ولنبينه تقدم أن هذا عطف على ما قبله فحكمه حكمه. وفي الضمير المنصوب أربعة احتمالات، أحدها: أنه يعود على الآيات، وجاز ذلك وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى القرآن. الثاني: أنه يعود على الكتاب لدلالة السياق عليه، ويقوي هذا أنه فاعل لدرس في قراءة من قرأه كذلك. الثالث: أنه يعود على المصدر المفهوم من نصرف أي نبين التصريف. الرابع: أن يعود على المصدر المفهوم من "لنبينه" أي: نبين التبيين نحو: ضربته زيدا أي ضربت الضرب زيدا. و "لقوم" متعلق بالفعل قبله. و "يعلمون" في محل جر صفة للنكرة قبلها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية