الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (121) قوله تعالى: وإنه لفسق : هذه الجملة فيها أوجه، أحدهما: أنها مستأنفة قالوا: ولا يجوز أن تكون منسوقة على ما قبلها، لأن [ ص: 131 ] الأولى طلبية وهذه خبرية، وتسمى هذه الواو واو الاستئناف. والثاني: أنها منسوقة على ما قبلها ولا يبالى بتخالفهما وهو مذهب سيبويه، وقد تقدم تحقيق ذلك، وقد أوردت من ذلك شواهد صالحة من شعر وغيره. والثالث: أنها حالية أي: لا تأكلوه والحال أنه فسق. وقد تبجح الإمام الرازي بهذا الوجه على الحنفية حيث قلب دليلهم عليهم بهذا الوجه، وذلك أنهم يمنعون من أكل متروك التسمية، والشافعية لا يمنعون منه، استدل عليهم الحنفية بظاهر هذه الآية فقال الرازي: هذه الجملة حالية، ولا يجوز أن تكون معطوفة لتخالفهما طلبا وخبرا فتعين أن تكون حالية، وإذا كانت حالية كان المعنى: لا تأكلوه حال كونه فسقا، ثم هذا الفسق مجمل قد فسره الله تعالى في موضع آخر فقال: أو فسقا أهل لغير الله به يعني أنه إذا ذكر على الذبيحة غير اسم الله فإنه لا يجوز أكلها لأنه فسق. ونحن نقول به، ولا يلزم من ذلك أنه إذا لم يذكر اسم الله ولا اسم غيره أن تكون حراما لأنه ليس بالتفسير الذي ذكرناه. وللنزاع فيه مجال من وجوه، منها: أنها لا نسلم امتناع عطف الخبر على الطلب والعكس كما قدمته عن سيبويه، وإن سلم فالواو للاستئناف كما تقدم وما بعدها مستأنف، وإن سلم أيضا فلا نسلم أن "فسقا" في الآية الأخرى مبين للفسق في هذه الآية، فإن هذا ليس من باب المجمل والمبين لأن له شروطا ليست موجودة هنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي قاله مستمد من كلام الزمخشري فإنه قال: فإن قلت: قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيان أو عمد. قلت: قد تأوله هؤلاء بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه كقوله: [ ص: 132 ] أو فسقا أهل لغير الله به فهذا أصل ما ذكره ابن الخطيب وتبجح به.

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في "إنه" يحتمل أن يعود على الأكل المدلول عليه بـ "لا تأكلوا" وأن يعود على الموصول، وفيه حينئذ تأويلان: أن تجعل الموصول نفس الفسق مبالغة أو على حذف مضاف أي: وإن أكله لفسق، أو على الذكر المفهوم من قوله "ذكر" . قال الشيخ: والضمير في "إنه" يعود على الأكل قاله الزمخشري واقتصر عليه. قلت: لم يقتصر عليه بل ذكر أنه يجوز أن يعود على الموصول، وذكر التأويلين المتقدمين فقال: الضمير راجع على مصدر الفعل الداخل عليه حرف النهي بمعنى: وإن الأكل منه لفسق، أو على الموصول على أن أكله لفسق، أو جعل ما لم يذكر اسم الله عليه [في] نفسه فسقا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ليجادلوكم متعلق بـ "يوحون" أي: يوحون لأجل مجادلتكم. وأصل "يوحون" : يوحيون فاعل. "وإن أطعتموهم" قيل: إن لام التوطئة للقسم فلذلك أجيب القسم المقدر بقوله "إنكم لمشركون" وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده، وجاز الحذف لأن فعل الشرط ماض. وقال أبو البقاء: "حذف الفاء من جواب الشرط، وهو حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي، وهو ههنا كذلك وهو قوله وإن أطعتموهم" . قلت: كأنه زعم أن [ ص: 133 ] جواب الشرط هو الجملة من قوله "إنكم لمشركون" ، والأصل "فإنكم" بالفاء لأنها جملة اسمية، ثم حذفت الفاء لكون فعل الشرط بلفظ المضي، وهذا ليس بشيء فإن القسم مقدر قبل الشرط، ويدل على ذلك حذف اللام الموطئة قبل "إن" الشرطية ، وليس فعل الشرط ماضيا كقوله تعالى: وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن فههنا لا يمكنه أن يقول: إن الفاء محذوفة لأن فعل الشرط مضارع، وكأن أبا البقاء والله أعلم أخذ هذا من الحوفي فإني رأيته فيه كما ذكره أبو البقاء، ورده الشيخ بنحو مما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية