الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (29) قوله تعالى: وأقيموا : فيه وجهان، أظهرهما: أنه معطوف على الأمر المقدر أي: الذي ينحل إليه المصدر وهو "بالقسط" ، وذلك [ ص: 296 ] أن القسط مصدر فهو ينحل لحرف مصدري وفعل، فالتقدير: قل: أمر ربي بأن أقسطوا وأقيموا، وكما أن المصدر ينحل لـ "أن" والفعل الماضي نحو: "عجبت من قيام زيد وخرج" أي: من أن قام وخرج، ولـ "أن" والفعل المضارع كقولها:


                                                                                                                                                                                                                                      2182 - للبس عباءة وتقر عيني . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لأن ألبس وتقر، كذلك ينحل لـ "أن" وفعل أمر لأنها بالثلاث الصيغ: الماضي والمضارع والأمر بشرط التصرف. وقد تقدم لنا تحقيق هذه المسألة وإشكالها وجوابه، وهذا بخلاف "ما" فإنها لا توصل بالأمر، وبخلاف "كي" فإنها لا توصل إلا بالمضارع، فلذلك لا ينحل المصدر إلى "ما" وفعل أمر، ولا إلى "كي" وفعل ماض أو مضارع. وقال الزمخشري: "وأقيموا وجوهكم: وقل أقيموا وجوهكم أي: اقصدوا عبادته". وهذا من أبي القاسم يحتمل تأويلين، أحدهما: أن يكون قوله "قل" أراد به أنه مقدر غير هذا الملفوظ به، فيكون "أقيموا" معمولا لقول أمر مقدر، وأن يكون معطوفا على قوله "أمر ربي" فإنه معمول لـ "قل" . وإنما أظهر الزمخشري "قل" مع "أقيموا" لتحقيق عطفيته على "أمر ربي" . ويجوز أن يكون قوله "وأقيموا" معطوفا على أمر محذوف تقديره: قل أقبلوا وأقيموا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الجرجاني صاحب "النظم": نسق الأمر على الجر، وجاز ذلك [ ص: 297 ] لأن قوله قل أمر ربي قول; لأن الأمر لا يكون إلا كلاما والكلام قول، وكأنه قال: قل يقول ربي:" أقسطوا وأقيموا "يعني أنه عطف على المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      و مسجد هنا يحتمل أن يكون مكانا وزمانا. قال الزمخشري: "في وقت كل سجود وفي مكان كل سجود"، وكان من حق مسجد مسجد بفتح العين لضمها في المضارع، وله في هذا الشذوذ أخوات كثيرة مذكورة في التصريف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: مخلصين حال من فاعل "ادعوه"، و "الدين" مفعول به باسم الفاعل. و "له" متعلق بمخلصين، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من "الدين".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: كما بدأكم الكاف في محل نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره: تعودون عودا مثل ما بدأكم. وقيل: تقديره يخرجون خروجا مثل ما بدأكم ذكرهما مكي، والأول أليق بلفظ الآية الكريمة. وقال ابن الأنباري: "موضع الكاف في "كما" نصب بتعودون; وهو على مذهب العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي: تعودون كما ابتدأ خلقكم".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفارسي: "كما بدأكم تعودون"، ليس على ظاهره إذ ظاهره: تعودون كالبدء، وليس المعنى تشبيههم بالبداء، إنما المعنى على إعادة الخلق كما ابتدئ، فتقدير كما بدأكم تعودون: كما بدأ خلقكم أي: يحيي خلقكم عودا كبدئه، وكما أنه لم يعن بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه كذلك لم يعن [ ص: 298 ] بالعود من غير حذف المضاف الذي هو الخلق فلما حذفه قام المضاف إليه مقام الفاعل فصار الفاعلون مخاطبين، كما أنه لما حذف المضاف من قوله " كما بدأ خلقكم صار المخاطبون مفعولين في اللفظ" . قلت: يعني أن الأصل كما بدأ خلقكم يعود خلقكم فحذف الخلق في الموضعين، فصار المخاطبون في الأول مفعولين بعد أن كانوا مجرورين بالإضافة، وفي الثاني صاروا فاعلين بعد أن كانوا مجرورين بالإضافة أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      و "بدأ" بالهمز أنشأ واخترع، ويستعمل بهذا المعنى ثلاثيا ورباعيا على أفعل، فالثلاثي كهذه الآية، وقد جمع بين الاستعمالين في قوله تعالى: أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق فهذا من أبدأ، ثم قال: كيف بدأ الخلق هذا فيما يتعدى بنفسه. وأما ما يتعدى بالباء نحو: بدأت بكذا بمعنى قدمته وجعلته أول الأشياء يقال منه: بدأت به وابتدأت به. وحكى الراغب أيضا أنه يقال من هذا: أبدأت به على أفعل وهو غريب، وقولهم "أبدأت من أرض كذا" أي ابتدأت منها بالخروج. والبدء: السيد، سمي بذلك قيل: لأنه يبدأ به في العد إذا عد السادات، وذكروا عليه قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2183 - فجئت قبورهم بدءا ولما     فناديت القبور فلم يجبنه



                                                                                                                                                                                                                                      أي: جئت قبور قومي سيدا ولما أكن سيدا، لكن بموتهم صيرت سيدا وهذا ينظر لقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2184 - خلت الديار فسدت غير مسود     ومن العناء تفردي بالسؤدد

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 299 ] و "ما" مصدرية أي: كبدئكم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية