الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (194) قوله تعالى: إن الذين : العامة على تشديد إن فالموصول اسمها وعباد خبرها. وقرأ سعيد بن جبير بتخفيف "إن" ونصب "عباد" و "أمثالكم". وقد خرجها أبو الفتح ابن جني وغيره أنها "إن" النافية، وهي عاملة عمل "ما" الحجازية، وهذا مذهب الكسائي وأكثر الكوفيين غير الفراء، وقال به من البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد. والصحيح أن إعمالها لغة ثابتة نظما ونثرا وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      2360 - إن هو مستوليا على أحد إلا على أضعف المجانين



                                                                                                                                                                                                                                      ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عبادا أمثالهم، والقراءة الشهيرة تثبت ذلك، ولا يجوز التناقض في كلام الله تعالى. وقد أجابوا عن ذلك بأن هذه القراءة تفهم تحقير أمر المعبود من دون الله وغباوة عابده، وذلك أن العابدين أتم حالا وأقدر على الضر والنفع من آلهتهم [ ص: 540 ] فإنها جماد لا تفعل شيئا من ذلك فكيف يعبد الكامل من هو دونه؟ فهي موافقة للقراءة المتواترة بطريق الأولى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد أبو جعفر هذه القراءة بثلاثة أوجه، أحدها: مخالفتها لسواد المصحف. الثاني: أن سيبويه يختار الرفع في خبر "إن" المخففة فيقول: "إن زيد منطلق" لأن عمل "ما" ضعيف و "إن" بمعناها فهي أضعف منها. الثالث: أن الكسائي لا يرى أنها تكون بمعنى "ما" إلا أن يكون بعدها إيجاب. وما رد به النحاس ليس بشيء لأنها مخالفة يسيرة. قال الشيخ: "ويجوز أن يكون كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا تكون فيه مخالفة للسواد". وأما سيبويه فاختلف الناس في الفهم عنه في ذلك. وأما الكسائي فهذا القيد غير معروف له. وخرج الشيخ القراءة على أنها "إن" المخففة قال: "وإن المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة "وإن كلا"، ثم إنها قد ثبت لها نصب الجزأين، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      2361 - . . . . . . . . . . . . . . . .      . . . . . . . . . . . . . . . إن حراسنا أسدا

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 541 ] قال: "وهي لغة ثابتة"، ثم قال: "فإن تأولنا ما ورد من ذلك نحو:


                                                                                                                                                                                                                                      2362 - يا ليت أيام الصبا رواجعا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: ترى رواجعا فكذلك هذه يكون تأويلها: إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عبادا أمثالكم". قلت: فيكون هذا التخريج مبنيا على مذهبين أحدهما: إعمال المخففة وقد نص جماعة من النحويين على أنه أقل من الإهمال، وعبارة بعضهم "إنه قليل" ولا أرتضيه لوروده في المتواتر. والثاني: أن "إن" وأخواتها تنصب الجزأين وهو مذهب مرجوح. وقد تحصل في تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه: كون "إن" نافية عاملة، أو المخففة الناصبة للجزأين، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ بعضهم "إن" مخففة، "عبادا" نصبا، "أمثالكم" رفعا، وتخريجها على أن تكون المخففة وقد أهملت، و "الذين" مبتدأ، و "تدعون" صلتها، والعائد محذوف، و "عباد" حال من ذلك العائد المحذوف، و "أمثالكم" خبره. والتقدير: إن الذين تدعونهم حال كونهم عبادا أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين فكيف يعبدون؟ ويضعف أن يكون الموصول اسما منصوب المحل لأن إعمال المخففة كما تقدم قليل.

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى أبو البقاء أيضا قراءة رابعة وهي بتشديد "إن"، ونصب "عباد"، ورفع "أمثالكم"، وتخريجها على ما تقدم قبلها. [ ص: 542 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية