الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (145) قوله تعالى: محرما : منصوب بقوله "لا أجد" وهو صفة لموصوف محذوف حذف لدلالة قوله على "طاعم يطعمه" والتقدير: لا أجد طعاما محرما. و "على طاعم" متعلق بمحرما و "يطعمه" في محل جر صفة لطاعم. وقرأ الباقر ونقلها مكي عن أبي جعفر "يطعمه" بتشديد الطاء وأصلها يطتعمه افتعالا من الطعم، فأبدلت التاء طاء لوقوعها بعد طاء للتقارب فوجب الإدغام. وقرأت عائشة ومحمد بن الحنفية وأصحاب عبد الله بن مسعود "تطعمه" بالتاء من فوق وتشديد العين فعلا ماضيا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله إلا أن يكون منصوب على الاستثناء وفيه وجهان، أحدهما: أنه [ ص: 196 ] متصل قال أبو البقاء: "استثناء من الجنس، وموضعه نصب، أي: لا أجد محرما إلا الميتة". والثاني: أنه منقطع. قال مكي: "وأن يكون في موضع نصب على الاستثناء المنقطع" . وقال الشيخ: "وإلا أن يكون" استثناء منقطع لأنه كون وما قبله عين، ويجوز أن يكون موضعه نصبا بدلا على لغة تميم ونصبا على الاستثناء على لغة الحجاز". يعني أن الاستثناء المنقطع فيه لغتان إحداهما لغة الحجاز وهو وجوب النصب مطلقا، ولغة التميميين يجعلونه كالمتصل، فإن كان في الكلام نفي أو شبهه رجح البدل، وهنا الكلام نفي فيترجح نصبه عند التميميين على البدل دون النصب على الاستثناء فنصبه من وجهين، وأما الحجاز فنصبه عندهم من وجه واحد، وظاهر كلام أبي القاسم الزمخشري أنه متصل فإنه قال: محرما أي: طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها، إلا أن يكون ميتة، إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة. وقرأ ابن عامر في رواية: "أوحى" بفتح الهمزة والحاء مبنيا للفاعل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: قل آلذكرين وقوله "نبئوني" ، وقوله أيضا "آلذكرين" ثانيا وقوله "أم كنتم شهداء" جمل اعتراض بين المعدودات التي وقعت تفصيلا لثمانية أزواج. قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف فصل بين المعدود وبين بعضه ولم يوال بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضا غير أجنبي من المعدود، وذلك أن الله عز وجل من على عباده بإنشاء الإنعام لمنافعهم [ ص: 197 ] وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على من حرمها، والاحتجاج على من حرمها تأكيد وتسديد للتحليل، والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عامر "إلا أن تكون ميتة" بالتأنيث ورفع ميتة يعني: إلا أن يوجد ميتة، فتكون تامة عنده، ويجوز أن تكون الناقصة والخبر محذوف تقديره: إلا أن يكون هناك ميتة، وقد تقدم أن هذا منقول عن الأخفش في قوله مثل ذلك وإن يكن ميتة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء: "ويقرأ برفع "ميتة" على أن "تكون" تامة، وهو ضعيف لأن المعطوف منصوب". قلت: كيف يضعف قراءة متواترة؟ وأما قوله: "لأن المعطوف منصوب" فذلك غير لازم; لأن النصب على قراءة من رفع "ميتة" يكون نسقا على محل "أن تكون" الواقعة مستثناة تقديره: إلا أن يكون ميتة، وإلا دما مسفوحا، وإلا لحم خنزير. وقال مكي ابن أبي طالب: وقرأ أبو جعفر "إلا أن تكون" بالتاء، "ميتة" بالرفع، ثم قال: "وكان يلزم أبا جعفر أن يقرأ "أو دم" بالرفع وكذلك ما بعده". قلت: هذه هي قراءة ابن عامر نسبها لأبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني شيخ نافع وهو محتمل، وقوله "كان يلزمه" إلى آخره هو معنى ما ضعف به أبو البقاء هذه القراءة، وقد تقدم جواب ذلك، واتفق أن ابن عامر يقرأ "وإن تكن ميتة" بالتأنيث والرفع وهنا كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وحمزة "تكون" بالتأنيث، "ميتة" بالنصب على أن اسم "تكون" مضمر عائد على مؤنث أي: إلا أن يكون المأكول، ويجوز أن يعود الضمير من "تكون" على "محرما"، وإنما أنث الفعل لتأنيث الخبر كقوله: ثم [ ص: 198 ] لم تكن فتنتهم إلا أن بنصب "فتنتهم" وتأنيث "تكن". وقرأ الباقون "يكون" بالتذكير، "ميتة" نصبا، واسم "يكون" يعود على قوله "محرما" أي: إلا أن يكون ذلك المحرم. وقدره أبو البقاء ومكي وغيرهما: "إلا أن يكون المأكول" أو "ذلك ميتة".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أو دما" ، "دما" على قراءة العامة معطوف على خبر "يكون" وهو "ميتة"، وعلى قراءة ابن عامر وأبي جعفر معطوف على المستثنى وهو "أن يكون" وقد تقدم تحرير ذلك. ومسفوحا صفة لـ "دما". والسفح: "الصب". وقيل: السيلان وهو قريب من الأول، وسفح يستعمل قاصرا ومتعديا يقال: سفح زيد دمعه ودمه، أي: أهراقه وسفح هو، إلا أن الفرق بينهما وقع باختلاف المصدر ففي المتعدي يقال: سفح، وفي اللازم يقال سفوح، ومن التعدي قوله تعالى: أو دما مسفوحا فإن اسم المفعول التام لا يبنى إلا من متعد، ومن اللزوم ما أنشده أبو عبيدة لكثير عزة:


                                                                                                                                                                                                                                      2107 - أقول ودمعي واكف عند رسمها عليك سلام الله والدمع يسفح



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أو فسقا" فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه عطف على خبر يكون أيضا أي: إلا أن يكون فسقا. و "أهل" في محل نصب لأنه صفة له كأنه قيل: أو فسقا مهلا به لغير الله، جعل العين المحرمة نفس الفسق مبالغة، أو على حذف مضاف ويفسره ما تقدم من قوله: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق . الثاني: أنه منصوب عطفا على محل المستثنى أي: إلا أن [ ص: 199 ] يكون ميتة أو إلا فسقا. وقوله "فإنه رجس" اعتراض بين المتعاطفين. والثالث: أن يكون مفعولا من أجله، والعامل فيه قوله "أهل" مقدم عليه، ويكون قد فصل بين حرف العطف وهو "أو" وبين المعطوف وهو الجملة من قوله "أهل" بهذا المفعول من أجله، ونظيره في تقديم المفعول له على عامله قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2108 - طربت وما شوقا إلى البيض أطرب     ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب



                                                                                                                                                                                                                                      و "أهل" على هذا الإعراب عطف على "يكون" ، والضمير في "به" عائد على ما عاد عليه الضمير المستتر في "يكون" ، وقد تقدم تحقيقه، قاله الزمخشري. إلا أن الشيخ تعقب عليه ذلك فقال: "وهذا إعراب متكلف جدا وتركيب على هذا الإعراب خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ إلا أن يكون ميتة بالرفع، فيبقى الضمير في "به" ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف محذوف حتى يعود الضمير عليه، فيكون التقدير: أو شيء أهل لغير الله به; لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر . قلت: يعني بذلك أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام "من" التبعيضية كقولهم: "منا ظعن ومنا أقام" أي: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، فإن لم يكن فيه "من" كان ضرورة كقوله: [ ص: 200 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2109 - ترمي بكفي كان من أرمى البشر



                                                                                                                                                                                                                                      أي: بكفي رجل، وهذا رأي بعضهم، وأما غيره فيقول: متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقا، فقد يجوز أن يرى الزمخشري هذا الرأي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فإنه" الهاء فيها خلاف، والظاهر عودها على "لحم" المضاف لخنزير. وقال ابن حزم: "إنها تعود على خنزير لأنه أقرب مذكور" ورجح الأول بأن اللحم هو المحدث عنه، والخنزير جاء بعرضية الإضافة إليه، ألا ترى أنك إذا قلت: "رأيت غلام زيد فأكرمته" أن الهاء تعود على الغلام لأنه المحدث عنه المقصود بالإخبار عنه، لا على زيد; لأنه غير مقصود. ورجح الثاني بأن التحريم المضاف للخنزير ليس مختصا بلحمه بل شحمه وشعره وعظمه وظلفه كذلك، فإذا أعدنا الضمير على خنزير كان وافيا بهذا المقصود، وإذا أعدنا على "لحم" لم يكن في الآية تعرض لتحريم ما عدا اللحم مما ذكر. وقد أجيب عنه بأنه إنما ذكر اللحم دون غيره، وإن كان غيره مقصودا بالتحريم; لأنه أهم ما فيه وأكثر ما يقصد منه اللحم، كما ذلك في غيره من الحيوانات، وعلى هذا فلا مفهوم لتخصيص اللحم بالذكر، ولو سلم فإنه يكون من باب مفهوم اللقب وهو ضعيف جدا. وقوله "فإنه رجس" : إما على المبالغة بأن جعل نفس الرجس، أو على حذف مضاف وله نظائر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية