الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (165) قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به : الضمير في "نسوا" للمنهيين. و "ما" موصولة بمعنى الذي، أي: فلما نسوا الوعظ الذي ذكرهم به الصالحون. قال ابن عطية: "ويحتمل أن يراد به الذكر نفسه، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر". قال الشيخ: "ولا يظهر لي هذان الاحتمالان". قلت: يعني ابن عطية بقوله "الذكر نفسه" ، أي: نفس الموصول مراد به المصدر كأنه قال: فلما نسوا الذكر الذي ذكروا به، وبقوله " ما كان فيه [ ص: 496 ] الذكر " نفس الشيء المذكر به الذي هو متعلق الذكر، لأن ابن عطية لما جعل "ما" بمعنى الذي قال: "إنها تحتمل الوقوع على هذين الشيئين المتغايرين".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: بعذاب بئيس قرأ نافع وأبو جعفر وشيبة: "بيس" بياء ساكنة. وابن عامر بهمزة ساكنة، وفيهما أربعة أوجه، أحدها: أن هذا في الأصل فعل ماض سمي به فأعرب كقوله عليه السلام: "أنهاكم عن قيل وقال" بالإعراب والحكاية، وكذا قولهم: "مذ شب إلى دب" و "مذ شب إلى دب" فلما نقل إلى الاسمية صار وصفا كـ نضو ونقض. والثاني: أنه وصف وضع على فعل كحلف. الثالث: أن أصله بئيس كالقراءة المشهورة، فخفف الهمزة، فالتقت ياءان ثم كسر الباء إتباعا كرغيف وشهيد، فاستثقل توالي ياءين بعد كسرة، فحذفت الياء المكسورة فصار اللفظ بئس، وهو تخريج الكسائي. الرابع: أن أصله "بئس" بزنة كتف ثم أتبعت الباء للهمزة في الكسر، ثم سكنت الهمزة ثم أبدلت ياء. وأما قراءة ابن عامر فتحتمل أن تكون فعلا منقولا، وأن تكون وصفا كحلف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو بكر عن عاصم "بيئس" بياء ساكنة بين باء وهمزة مفتوحتين وهو صفة على فيعل كضيغم وصيرف وهي كثيرة في الأوصاف . وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي:


                                                                                                                                                                                                                                      2320 - كلاهما كان رئيسا بيئسا يضرب في يوم الهياج القونسا

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 497 ] وقرأ باقي السبعة بئيس بزنة رئيس. وفيه وجهان، أحدهما: أنه وصف على فعيل كشديد وهو للمبالغة وأصله فاعل. والثاني: أنه مصدر وصف به أي: بعذاب ذي بأس بئيس، مصدر: مثل النذير والنكير والعذير، ومثل ذلك في احتمال الوجهين قول أبي الإصبع العدواني:


                                                                                                                                                                                                                                      2321 - حنقا علي ولا أرى     لي منهما شرا بئيسا



                                                                                                                                                                                                                                      وهي أيضا قراءة علي وأبي رجاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ يعقوب القارئ: بئس بوزن شهد، وقرأها أيضا عيسى بن عمر وزيد بن علي. وقرأ نصر بن عاصم: بأس بوزن ضرب فعلا ماضيا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش ومالك بن دينار: بأس فعلا ماضيا، وأصله بئس بكسر الهمزة فسكنها تخفيفا كشهد في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2322 - لو شهد عاد في زمان تبع



                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وأهل مكة: بئس بكسر الباء والهمز همزا خفيفا، ولم يبين: هل الهمزة مكسورة أو ساكنة؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ طلحة وخارجة عن نافع بيس بفتح الباء وسكون الياء مثل كيل وأصله بيئس مثل: ضيغم فخفف الهمزة بقلبها ياء وإدغام الياء فيها، ثم خففه بالحذف كميت في ميت. [ ص: 498 ] وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية: بيئس كقراءة أبي بكر عنه إلا أنه كسر الهمزة. وهذه قد ردها الناس لأن فيعلا بكسر العين في المعتل، كما أن فيعلا بفتحها في الصحيح كسيد وضيغم. على أنه قد شذ: صيقل بالكسر، وعيل بالفتح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه "بأس" بفتح الباء والهمزة وجر السين بزنة جبل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف "بئس" مثل كبد وحذر قال عبيد الله بن قيس:


                                                                                                                                                                                                                                      2323 - ليتني ألقى رقية في     خلوة من غير ما بئس



                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نصر بن عاصم في رواية "بيس" بتشديد الياء كميت، وفيها تخريجان، أحدهما: أنها من البؤس ولا أصل لها في الهمز، والأصل: بيوس كميوت ففعل به ما فعل به. والثاني: أن أصله الهمزة فأبدلها ياء ثم أدغم الباء في الياء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أيضا في رواية "بأس" بهمزة مشددة، قالوا: قلب الياء همزة وأدغمها في مثلها ماضيا كشمر.

                                                                                                                                                                                                                                      وطائفة أخرى: "بأس" كالتي قبلها إلا أن الهمزة خفيفة.

                                                                                                                                                                                                                                      وطائفة: "باس" بألف صريحة بين الباء والسين المجرورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أهل المدينة: "بئيس" كرئيس، إلا أنهم كسروا الباء، وهذه لغة [ ص: 499 ] تميم في فعيل الحلقي العين نحو: بعير وشعير وشهيد سواء أكان اسما أم صفة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن والأعمش: "بئيس" بياء مكسورة ثم همزة ساكنة ثم ياء مفتوحة بزنة حذيم وعثير.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن: بئس بكسر الباء وسكون الهمزة وفتح السين، جعلها التي للذم في نحو: بئس الرجل زيد، ورويت عن أبي بكر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن أيضا كذلك إلا أنه بياء صريحة، وتخريجها كالتي قبلها وهي مروية عن نافع. وقد رد أبو حاتم هذه القراءة والتي قبلها بأنه لا يقال: "مررت برجل بئس" حتى يقال: بئس الرجل، أو بئس رجلا. قال النحاس: وهذا مردود يعني قول أبي حاتم حكى النحويون: "إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت"، أي: ونعمت الخصلة، والتقدير: بئس العذاب. قلت: أبو حاتم معذور في [رد] القراءة فإن الفاعل ظاهرا غير مذكور والفاعل عمدة لا يجوز حذفه، ولكن قد ورد في الحديث: "من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل"، ففاعل "نعمت" هنا مضمر يفسره سياق الكلام. قال الشيخ: فهذه اثنتان وعشرون قراءة، وضبطها بالتلخيص أنها قرئت ثلاثية اللفظ ورباعيته: فالثلاثي اسما: بيس، [ ص: 500 ] بئس، بيس، باس، بأس، بئس، بئس.

                                                                                                                                                                                                                                      وفعلا: بئس، بيس، بئس، بأس، بأس، بيس. والرباعية اسما: بيئس، بيئس، بيئس، بيس، بئيس. بئيس، بئيس. وفعلا: بأس.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: وقد زاد أبو البقاء أربع قراءات أخر: بيس بباء مفتوحة وياء مكسورة. قال: وأصلها همزة مكسورة فأبدلت ياء، وبيس بفتحهما، قال: وأصلها ياء ساكنة وهمزة مفتوحة، إلا أن حركة الهمزة ألقيت على الياء وحذفت، ولم تقلب الياء ألفا لأن حركتها عارضة. وبأيس بفتح الباء وسكون الهمزة وفتح الياء، قال: "وهو بعيد إذ ليس في الكلام فعيل". وقرئ بيآس على فيعال وهو غريب. فهذه ست وعشرون قراءة في هذه اللفظة، وقد حررت ألفاظها وتوجيهاتها بحمد الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية