الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (100) قوله تعالى: شركاء الجن : الجمهور على نصب "الجن" وفيه خمسة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أن "الجن" هو المفعول الأول، والثاني هو "شركاء" قدم، و "لله" متعلق بشركاء. والجعل هنا بمعنى التصيير، وفائدة التقديم كما قاله الزمخشري استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكا أو جنيا أو إنسيا ولذلك قدم اسم الله على الشركاء. انتهى. ومعنى كونهم جعلوا الجن شركاء لله هو أنهم يعتقدون أنهم يخلقون من المضار والحيات والسباع كما جاء في التفسير. وقيل: ثم طائفة من الملائكة يسمون الجن كان بعض العرب يعبدها.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن يكون "شركاء" مفعولا أول و "لله" متعلق بمحذوف على أنه المفعول الثاني، و "الجن" بدل من "شركاء"، أجاز ذلك الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء ومكي بن أبي طالب، إلا أن مكيا لما ذكر هذا الوجه جعل اللام من "لله" متعلقة بجعل فإنه قال: "الجن" مفعول أول لجعل و "شركاء" مفعول ثان مقدم، واللام في "لله" متعلقة بشركاء، وإن شئت جعلت "شركاء" مفعولا أول، والجن بدلا من شركاء، و "لله" في موضع المفعول الثاني، واللام متعلقة بجعل. قلت: بعد أن جعل "لله" مفعولا ثانيا كيف يتصور أن يجعل اللام متعلقة بالجعل؟ هذا ما لا يجوز لأنه لما صار مفعولا ثانيا تعين تعلقه بمحذوف على ما عرفته غير مرة. قال الشيخ: وما أجازوه - يعني الزمخشري ومن ذكر معه- لا يجوز; لأنه يصح للبدل أن [ ص: 84 ] يحل محل المبدل منه فيكون الكلام منتظما، لو قلت: وجعلوا لله الجن لم يصح، وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولا للعامل في المبدل منه على قول، وهذا لا يصح هنا البتة لما ذكرنا. قلت: هذا القول المنسوب للزمخشري ومن ذكر معه سبقهم إليه الفراء وأبو إسحاق فإنهما أجازا أن يكونا مفعولين قدم ثانيهما على الأول وأجازا أن يكون "الجن" بدلا من "الشركاء" ومفسرا للشركاء هذا نص عبارتهم، وهو معنى صحيح أعني كون البدل مفسرا، فلا معنى لرد هذا القول، وأيضا فقد رد هو على الزمخشري عند قوله تعالى إلا ما أمرتني به أن اعبدوا فإنه لا يلزم في كل بدل أن يحل محل المبدل منه، قال: ألا ترى إلى تجويز النحويين "زيد مررت به أبي عبد الله" ولو قلت: "زيد مررت بأبي عبد الله" لم يجز إلا على رأي الأخفش، وقد سبق هذا في المائدة، فقد قرر هو أنه لا يلزم حلول البدل محل المبدل منه فكيف يرد به هنا؟

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن يكون "شركاء" هو المفعول الأول و "الجن" هو المفعول الثاني، قاله الحوفي، وهذا لا يصح لما عرفت أن الأول في هذا الباب مبتدأ في الأصل والثاني خبر في الأصل، وتقرر أنه إذا اجتمع معرفة ونكرة جعلت المعرفة مبتدأ والنكرة خبرا، من غير عكس إلا في ضرورة، تقدم التنبيه على الوارد منها.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن يكون "شركاء الجن" مفعولين على ما تقدم بيانه. و "لله" متعلقا بمحذوف على أنه حال من "شركاء" ; لأنه لو تأخر عنها لجاز أن يكون [ ص: 85 ] صفة لها قاله أبو البقاء، وهذا لا يصح; لأنه يصير المعنى: جعلوهم شركاء في حال كونهم لله أي: مملوكين، وهذه حال لازمة لا تنفك، ولا يجوز أن يقال إنها غير منتقلة لأنها مؤكدة إذ لا تأكيد فيها هنا، وأيضا فإن فيه تهيئة العامل في معمول وقطعه عنه; فإن "شركاء" يطلب هذا الجار ليعمل فيه والمعنى منصب على ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أن يكون "الجن" منصوبا بفعل مضمر جواب لسؤال مقدر، كأن سائلا سأل فقال بعد قوله تعالى وجعلوا لله شركاء : من جعلوا لله شركاء؟ فقيل: الجن، أي: جعلوا الجن، نقله الشيخ عن شيخه أبي جعفر بن الزبير، وجعله أحسن مما تقدم قال: ويؤيد ذلك قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب "الجن" رفعا على تقدير: هم الجن، جوابا لمن قال: [من] جعلوا لله شركاء؟ فقيل: هم الجن، ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والاستنقاص بمن جعلوه شريكا لله تعالى. وقال مكي: وأجاز الكسائي رفع "الجن" على معنى هم الجن، فلم يروها عنه قراءة، وكأنه لم يطلع على أن غيره قرأها كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ شعيب بن أبي حمزة ويزيد بن قطيب وأبو حيوة في رواية عنهما أيضا "شركاء الجن" بخفض "الجن"، قال الزمخشري: وقرئ بالجر على الإضافة التي للتبيين فالمعنى: أشركوهم في عبادتهم لأنهم أطاعوهم [ ص: 86 ] كما أطاعوا الله. قال الشيخ: "ولا يتضح معنى هذه القراءة، إذ التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله". قلت: معناها واضح بما فسره الزمخشري في قوله، والمعنى: أشركوهم في عبادتهم إلى آخره ولذلك سماها إضافة تبيين، أي: إنه بين الشركاء كأنه قيل: الشركاء المطيعين للجن.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وخلقهم الجمهور على "خلقهم" بفتح اللام فعلا ماضيا، وفي هذه الجملة احتمالان، أحدهما: أنها حالية فـ "قد" مضمرة عند قوم وغير مضمرة عند آخرين.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها مستأنفة لا محل لها، والضمير في "خلقهم" فيه وجهان، أحدهما: أنه يعود على الجاعلين أي: جعلوا له شركاء مع أنه خلقهم وأوجدهم منفردا بذلك من غير مشاركة له في خلقهم فكيف يشركون به غيره ممن لا تأثير له في خلقهم؟ والثاني: أنه يعود على الجن أي: والحال أنه خلق الشركاء فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ يحيى بن يعمر: "وخلقهم" بسكون اللام. قال الشيخ: "وكذا في مصحف عبد الله" . قلت: قوله "وكذا في مصحف عبد الله" فيه نظر من حيث إن الشكل الاصطلاحي أعني ما يدل على الحركات الثلاث وما يدل على السكون كالجزء منه كانت مصاحف السلف منها مجردة، والضبط الموجود بين أيدينا اليوم أمر حادث، يقال: إن أول من أحدثه يحيى بن يعمر، فكيف ينسب ذلك لمصحف عبد الله بن مسعود؟ وفي هذه القراءة تأويلان أحدهما: أن يكون "خلقهم" مصدرا بمعنى اختلاقهم. قال الزمخشري: أي اختلاقهم للإفك يعني: وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم "والله أمرنا بها" انتهى. فيكون "لله" هو المفعول الثاني قدم على [ ص: 87 ] الأول. والتأويل الثاني: أن يكون "خلقهم" مصدرا بمعنى مخلوقهم. فيكون عطفا على "الجن" ، ومفعوله الثاني محذوف تقديره: وجعلوا مخلوقهم وهو ما ينحتون من الأصنام كقوله تعالى: قال أتعبدون ما تنحتون شركاء لله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وخرقوا قرأ الجمهور "خرقوا" بتخفيف الراء ونافع بتشديدها. وقرأ ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء، وابن عمر كذلك أيضا إلا أنه شدد الراء، والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاختلاق. قال الفراء: "يقال خلق الإفك وخرقه واختلقه وافتراه وافتعله وخرصه بمعنى كذب فيه" ، والتشديد للتكثير لأن القائلين بذلك خلق كثير وجم غفير، وقيل: هما لغتان، والتخفيف هو الأصل. وقال الزمخشري: "ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي: اشتقوا له بنين وبنات" . وأما قراءة الحاء المهملة فمعناها التزوير أي: زوروا له أولادا لأن المزور محرف ومغير الحق إلى الباطل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله بغير علم فيه وجهان. أحدهما: أنه نعت لمصدر محذوف أي: خرقوا له خرقا بغير علم قاله أبو البقاء وهو ضعيف المعنى، والثاني: وهو الأحسن أن يكون منصوبا على الحال من فاعل "خرقوا" أي: افتعلوا الكذب مصاحبين للجهل وهو عدم العلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية