الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (30) قوله تعالى: فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة : في نصب "فريقا" وجهان أحدهما: أنه منصوب بهدى بعده، و "فريقا" الثاني منصوب بإضمار فعل يفسره قوله حق عليهم الضلالة من حيث المعنى، والتقدير: وأضل فريقا حق عليهم، وقدره الزمخشري: "وخذل فريقا" لغرض له في ذلك. والجملتان الفعليتان في محل نصب على الحال من فاعل "بدأكم" أي: بدأكم حال كونه هاديا فريقا ومضلا آخر، و "قد" مضمرة عند بعضهم. ويجوز على هذا الوجه أيضا أن تكون الجملتان الفعليتان مستأنفتين، فالوقف على "يعودون" على هذا الإعراب تام بخلاف ما إذا جعلهما حالين، فالوقف على قوله " الضلالة " .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني: أن ينتصب "فريقا" على الحال من فاعل "تعودون" أي: تعودون: فريقا مهديا وفريقا حاقا عليه الضلالة، وتكون الجملتان الفعليتان على هذا في محل نصب على النعت لفريقا وفريقا، ولا بد حينئذ من حذف عائد على الموصوف من هدى أي: فريقا هداهم، ولو قدرته "هداه" بلفظ الإفراد لجاز، اعتبار بلفظ "فريق" ، إلا أن الأحسن الأول لمناسبة قوله: وفريقا حق عليهم ، والوقف حينئذ على قوله "الضلالة" ، ويؤيد إعرابه حالا قراءة أبي بن كعب: "تعودون فريقين: فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة". ففريقين نصب على الحال، وفريقا وفريقا بدل أو منصوب بإضمار [ ص: 300 ] - أعني- على القطع، ويجوز أن ينتصب "فريقا" الأول على الحال من فاعل تعودون، و "فريقا" الثاني نصب بإضمار فعل يفسره "حق عليهم الضلالة" كما تقدم تحقيقه في كل منهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الأوجه كلها ذكرها ابن الأنباري فإنه قال كلاما حسنا، قال رحمه الله: انتصب فريقا وفريقا على الحال من الضمير الذي في تعودون، يريد: تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين، بعضكم أشقياء وبعضكم سعداء، فاتصل "فريق" وهو نكرة بالضمير الذي في "تعودون" وهو معرفة فقطع عن لفظه، وعطف الثاني عليه. قال: ويجوز أن يكون الأول منصوبا على الحال من الضمير، والثاني منصوب بحق عليهم الضلالة، لأنه بمعنى أضلهم كما يقول القائل: "عبد الله أكرمته وزيدا أحسنت إليه" فينتصب زيدا بأحسنت إليه بمعنى نفعته، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      2185 - أثعلبة الفوارس أم رياحا عدلت بهم طهية والخشابا



                                                                                                                                                                                                                                      نصب ثعلبة بـ "عدلت بهم طهية" لأنه بمعنى أهنتهم أي: عدلت بهم من هو دونهم، وأنشد أيضا قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2186 - يا ليت ضيفكم الزبير وجاركم     إياي لبس حبله بحبالي



                                                                                                                                                                                                                                      فنصب "إياي" بقوله: "لبس حبله بحبالي"، إذ كان معناه "خالطني وقصدني". قلت: يريد بذلك أنه منصوب بفعل مقدر من معنى الثاني لا من لفظه، هذا وجه التنظير. وإلى كون "فريقا" منصوبا بـ "هدى" و "فريقا "منصوبا بـ "حق" ذهب الفراء، وجعله نظير قوله تعالى: يدخل من يشاء [ ص: 301 ] في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إنهم اتخذوا جار مجرى التعليل وإن كان استئنافا لفظا، ويدل على ذلك قراءة عيسى بن عمر والعباس بن الفضل وسهل بن شعيب "أنهم" بفتح الهمزة وهي نص في العلية أي: حقت عليهم الضلالة لاتخاذهم الشياطين أولياء، ولم يسند الإضلال إلى ذاته المقدسة وإن كان هو الفاعل لها تحسينا للفظ وتعليما لعباده الأدب، وعليه: وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية