الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (25) قوله تعالى: لا تصيبن : في "لا" وجهان، أحدهما أنها ناهية، وعلى هذا فالجملة لا يجوز أن تكون صفة لـ " فتنة " لأن الجملة الطلبية لا تقع صفة، ويجوز أن تكون معمولة لقول، ذلك القول هو الصفة أي: فتنة [ ص: 590 ] مقولا فيها: لا تصيبن. والنهي في الصورة للمصيبة وفي المعنى للمخاطبين، وهو في المعنى كقولهم: لا أرينك ههنا أي: لا تتعاطوا أسبابا يصيبكم فيها مصيبة لا تخص ظالمكم. ونون التوكيد على هذا في محلها. ونظير إضمار القول قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2401 - جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط



                                                                                                                                                                                                                                      أي: مقول فيه: هل رأيت. والثاني: أن "لا" نافية، والجملة صفة لـ "فتنة" وهذا واضح من هذه الجهة، إلا أنه يشكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط، وفيه خلاف: هل يجري النفي بـ "لا" مجرى النهي؟ من الناس من قال نعم، واستشهد بقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2402 - فلا الجارة الدنيا لها تلحينها     ولا الضيف منها إن أناخ محول



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2403 - فلا ذا نعيم يتركن لنعيمه     وإن قال قرظني وخذ رشوة أبى
                                                                                                                                                                                                                                      ولا ذا بيئس يتركن لبؤسه     فينفعه شكو إليه إن اشتكى



                                                                                                                                                                                                                                      فإذا جاز أن يؤكد المنفي بـ "لا" مع انفصاله فلأن يؤكد المنفي غير المفصول بطريق الأولى. إلا أن الجمهور يحملون ذلك على الضرورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم الفراء أن "لا تصيبن" جواب للأمر نحو: "انزل عن الدابة [ ص: 591 ] لا تطرحنك"، أي: إن تنزل عنها لا تطرحنك، ومنه قوله لا يحطمنكم [بالنمل: 18] ، أي: إن تدخلوا لا يحطمنكم، فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء. قال الشيخ: "وقوله: لا يحطمنكم وهذا المثال ليس نظير "فتنة لا تصيبن الذين" لأنه ينتظم من الآية والمثال شرط وجزاء كما قدر، ولا ينتظم ذلك هنا، ألا ترى أنه لا يصح تقدير: إن تتقوا فتنة لا تصب الذين ظلموا، لأنه يترتب على الشرط غير مقتضاه من جهة المعنى".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري: "لا تصيبن": لا يخلو: إما أن يكون جوابا للأمر أو نهيا بعد أمر أو صفة لفتنة. فإذا كانت جوابا فالمعنى: إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة، بل تعمكم، قال الشيخ: "وأخذ الزمخشري قول الفراء فزاده فسادا وخبط فيه"، فذكر ما نقلته عنه ثم قال: "فانظر إليه كيف قدر أن يكون جوابا للأمر الذي هو "اتقوا"، ثم قدر أداة الشرط داخلة على غير مضارع "اتقوا" فقال: المعنى: إن أصابتكم، يعني الفتنة. وانظر كيف قدر الفراء: انزل عن الدابة لا تطرحنك، وفي قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم ، فأدخل أداة شرط على مضارع فعل الأمر وهكذا [يقدر] ما كان جوابا للأمر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: "لا تصيبن" جواب قسم محذوف، والجملة القسمية صفة لفتنة أي: فتنة والله لا تصيبن. ودخول النون أيضا قليل لأنه منفي. وقال [ ص: 592 ] أبو البقاء: "ودخلت النون على المنفي في غير القسم على الشذوذ"، وظاهر هذا أنه إذا كان النفي في جواب القسم يطرد دخول النون، وليس كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن اللام لام التوكيد، والفعل بعدها مثبت، وإنما مطلت اللام، أي: أشبعت فتحتها فتولدت ألفا، فدخول النون فيها قياس. وتأثر هذا القائل بقراءة جماعة كثيرة "لتصيبن" وهي قراءة أمير المؤمنين وابن مسعود وزيد بن ثابت والباقر والربيع وأنس وأبي العالية وابن جماز. وممن وجه ذلك ابن جني. والعجب أنه وجه هذه القراءة الشاذة بتوجيه يردها إلى قراءة العامة، فقال: "ويجوز أن تكون قراءة ابن مسعود ومن ذكر معه مخففة من "لا" يعني حذفت ألف "لا" تخفيفا، واكتفي بالحركة"، قال: "كما قالوا: أم والله يريدون: أما والله". قال المهدوي: كما حذفت من "ما" وهي أخت "لا" في نحو "أما والله لأفعلن" وشبهه. قوله "أخت لا" ليس كذلك لأن "أما" هذه للاستفتاح كـ "ألا"، وليست من النافية في شيء، فقد تحصل من هذا أن ابن جني خرج كلا من القراءتين على الأخرى، وهذا لا ينبغي أن يجوز البتة، كيف يورد لفظ نفي ويتأول بثبوت وعكسه؟ هذا إنما يقلب الحقائق ويؤدي إلى التعمية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال المبرد والفراء والزجاج في قراءة العامة: "لا تصيبن": "إن الكلام قد تم عند قوله "فتنة" وهو خطاب عام للمؤمنين، ثم ابتدأ نهي الظلمة [ ص: 593 ] خاصة عن البعد من الظلم فتصيبهم الفتنة خاصة. والمراد هنا: لا يتعرض الظالم للفتنة فتقع إصابتها له خاصة".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه: "وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنه قيل: واحذروا ذنبا أو عقابا، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب من ظلم منكم خاصة".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال علي بن سليمان: هو نهي على معنى الدعاء، وإنما جعله نهيا بمعنى الدعاء لأن دخول النون في المنفي بـ لا عنده لا يجوز، فيصير المعنى: لا أصابت ظالما ولا غير ظالم، فكأنه قيل: واتقوا فتنة لا أوقعها الله بأحد. وقد تحصلت مما تقدم في تخريج هذه الكلمة على أقوال: النهي بتقديريه، والدعاء بتقديريه، والجواب للأمر بتقديريه، وكونها صفة بتقدير القول.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: منكم فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها للبيان مطلقا. والثاني: أنها حال فتتعلق بمحذوف، وجعلها الزمخشري للتبعيض على تقدير، وللبيان على تقدير آخر فقال: "فإن قلت: ما معنى "من" في قوله "الذين ظلموا منكم" ؟ قلت: التبعيض على الوجه الأول، والبيان على الثاني; لأن المعنى: لا تصيبنكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم منكم أقبح من سائر الناس". قلت: يعني بالأول كونه جوابا لأمر، وبالثاني كونه نهيا بعد أمر. وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهين دون الآخر وكذا الثاني نظر; إذ المعنى يصح بأحد التقديرين مع التبعيض والبيان.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: خاصة فيه ثلاثة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أنها حال من الفاعل المستكن في قوله: "لا تصيبن"، وأصلها أن تكون صفة لمصدر [ ص: 594 ] محذوف تقديره: إصابة خاصة. الثاني: أنها حال من المفعول وهو الموصول تقديره: لا تصيبن الظالمين خاصة بل تعمهم وتعم غيرهم. والثالث: أنه حال من فاعل "ظلموا" قاله ابن عطية. قال الشيخ: "ولا يعقل هذا الوجه". قلت: ولا أدري ما عدم تعقله؟ فإن المعنى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا ولم يظلم غيرهم، بمعنى أنهم اختصوا بالظلم ولم يشاركهم فيه غيرهم، فهذه الفتنة لا تختص إصابتها هؤلاء بأنفسهم وتصيب من لم يظلم البتة، وهذا معنى واضح.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية