الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (117) قوله تعالى: هو أعلم من يضل : في "أعلم" هذه قولان أحدهما: أنها ليست للتفضيل بل بمعنى اسم فاعل في قوته كأنه قيل: إن ربك هو يعلم. قال الواحدي: ولا يجوز ذلك لأنه لا يطابق وهو أعلم بالمهتدين . والثاني: أنها على بابها من التفضيل. ثم اختلف هؤلاء في محل "من": فقال بعض البصريين: هو جر بحرف مقدر حذف وبقي عمله لقوة الدلالة عليه بقوله وهو أعلم بالمهتدين وهذا ليس بشيء لأنه لا يحذف الجار ويبقى أثره إلا في مواضع تقدم التنبيه عليها، وما ورد بخلافها فضرورة كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2044 - . . . . . . . . . . . . . . . أشارت كليب بالأكف الأصابع



                                                                                                                                                                                                                                      [وقوله] :


                                                                                                                                                                                                                                      2045 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . .     حتى تبذخ فارتقى الأعلام



                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنها في محل نصب على إسقاط الخافض كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2046 - تمرون الديار ولم تعوجوا      . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      قاله أبو الفتح. وهو مردود من وجهين: أحدهما: أن ذلك لا يطرد. والثاني: أن أفعل التفضيل لا تنصب بنفسها لضعفها. الثالث: وهو قول الكوفيين أنه نصب بنفس أفعل فإنها عندهم تعمل عمل الفعل. الرابع: أنها [ ص: 127 ] منصوبة بفعل مقدر يدل عليه أفعل، قاله الفارسي، وعليه خرج قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      2047 - أكر وأحمى للحقيقة منهم     وأضرب منا بالسيوف القوانسا



                                                                                                                                                                                                                                      فالقوانس نصب بإضمار فعل، أي: يضرب القوانس، لأن أفعل ضعيفة كما تقرر. الخامس: أنها مرفوعة المحل بالابتداء، و "يضل" خبره، والجملة معلقة لأفعل التفضيل فهي في محل نصب بها، كأنه قيل: أعلم أي الناس يضل كقوله: لنعلم أي الحزبين أحصى وهذا رأي الكسائي والزجاج والمبرد ومكي. إلا أن الشيخ رد هذا بأن التعليق فرع ثبوت العمل في المفعول به وأفعل لا يعمل فيه فلا يعلق. والراجح من هذه الأقوال نصبها بمضمر وهو قول الفارسي، وقواعد البصريين موافقة له، ولا يجوز أن تكون "من" في محل جر بإضافة أفعل إليها; لئلا يلزم محذور عظيم: وذلك أن أفعل التفضيل لا تضاف إلا إلى جنسها فإذا قلت: "زيد أعلم الضالين" لزم أن يكون "زيد" بعض الضالين أي متصف بالضلال، فهذا الوجه مستحيل في هذه الآية الكريمة. هذا عند من قرأ "يضل" بفتح حرف المضارعة.

                                                                                                                                                                                                                                      أما من قرأ بضمه: "يضل" وهو الحسن وأحمد بن أبي سريج فقال أبو البقاء: يجوز أن تكون "من" في موضع جر بإضافة "أفعل" إليها. قال: [ ص: 128 ] إما على معنى هو أعلم المضلين أي: من يجد الضلال، وهو من أضللته أي: وجدته ضالا مثل أحمدته أي: وجدته محمودا أو بمعنى أنه يضل عن الهدى. قلت: ولا حاجة إلى ارتكاب مثل هذا في مثل هذه الأماكن الحرجة، وكان قد عبر قبل ذلك بعبارات استعظمت النطق بها فضربت عنها إلى أمثلة من قولي.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي تحمل عليه هذه القراءة ما تقدم من المختار وهو النصب بمضمر. وفاعل "يضل" على هذه القراءة ضمير يعود على الله تعالى على معنى يجده ضالا أو يخلق فيه الضلال، لا يسأل عما يفعل. ويجوز أن يكون ضمير "من" أي: أعلم من يضل الناس. والمفعول محذوف. وأما على القراءة الشهيرة فالفاعل ضمير "من" فقط. و "من" يجوز أن تكون موصولة وهو الظاهر، وأن تكون نكرة موصوفة، ذكره أبو البقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية