الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (132) قوله تعالى: مهما : "مهما" اسم شرط يجزم فعلين، كـ "إن". هذا قول جمهور النحاة، وقد يأتي للاستفهام، وهو قليل جدا كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2273 - مهما لي الليلة مهما ليه أودى بنعلي وسرباليه



                                                                                                                                                                                                                                      يريد: ما لي الليلة ما لي؟ والهاء للسكت.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم بعض النحويين أن الجازمة تأتي ظرف زمان، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      2274 - وإنك مهما تعط بطنك سؤله     وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2275 - ... ... ... ...     عودت قومك أن كل مبرر
                                                                                                                                                                                                                                      مهما يعود شيمة يتعود.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 430 ] وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2276 - نبئت أن أبا شتيم يدعي     مهما يعش يسمع بما لم يسمع



                                                                                                                                                                                                                                      قال: "فـ "مهما" هنا ظرف زمان" والجمهور على خلافه. وما ذكره متأول، بل بعضه لا يظهر فيه للظرفية معنى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد شنع الزمخشري على القائل بذلك فقال: وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية فيضعها غير موضعها، ويحسب "مهما" بمعنى "متى" ويقول: مهما جئتني أعطيتك، وهذا من كلامه وليس من واضع العربية، ثم يذهب فيفسر مهما تأتنا به من آية بمعنى الوقت فيلحد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه. قلت: هو معذور في كونها بمعنى الوقت، فإن ذلك قول ضعيف لم يقل به إلا الطائفة الشاذة، وقد قال جمال الدين بن مالك: "جميع النحويين يقولون إن "مهما" و "ما" مثل "من" في لزوم التجرد عن الظرف، مع أن استعمالهما ظرفين ثابت في أشعار الفصحاء من العرب، وأنشد بعض الأبيات المتقدمة. قلت: وكفى بقوله "جميع النحويين" دليلا على ضعف القول بظرفيتهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وهي اسم لا حرف بدليل عود الضمير عليها، ولا يعود الضمير على حرف كقوله مهما تأتنا به فالهاء في "به" تعود على "مهما"، وشذ السهيلي فزعم أنها قد تأتي حرفا. [ ص: 431 ] واختلف النحويون في "مهما": هل هي بسيطة أو مركبة؟ والقائلون بتركيبها اختلفوا: فمنهم من قال: هي مركبة من ما ما، كررت "ما" الشرطية توكيدا فاستثقل توالي لفظين فأبدلت ألف "ما" الأولى هاء. وقيل: زيدت "ما" على "ما" الشرطية كما تزاد على "إن" في قوله: فإما يأتينكم فعمل العمل المذكور للثقل الحاصل. وهذا قول الخليل وأتباعه من أهل البصرة. وقال قوم: "هي مركبة من مه التي هي اسم فعل بمعنى الزجر وما الشرطية، ثم ركبت الكلمتان فصارا شيئا واحدا". وقال بعضهم: "لا تركيب فيها هنا بل كأنهم قالوا له: مه، ثم قالوا: ما تأتنا به"، ويعزى هذان الاحتمالان للكسائي وهذا ليس بشيء; لأن ذلك قد يأتي في موضع لا زجر فيه، ولأن كتابتها متصلة ينفي كون كل منهما كلمة مستقلة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قوم: إنها مركبة من مه بمعنى اكفف ومن الشرطية، بدليل قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      2277 - أماوي مه من يستمع في صديقه     أقاويل هذا الناس ماوي يندم



                                                                                                                                                                                                                                      فأبدلت نون "من" ألفا، كما تبدل النون الخفيفة بعد فتحة، والتنوين ألفا. وهذا ليس بشيء، بل "مه" على بابها من كونها من انكفف ثم قال: من يستمع. وقال قوم: بل هي مركبة من من وما، فأبدلت نون من هاء، كما [ ص: 432 ] أبدلوا من ألف "ما" الأولى هاء، وذلك لمؤاخاة "من" "ما" في أشياء وإن افترقا في شيء واحد. ذكره مكي.

                                                                                                                                                                                                                                      ومحلها نصب أو رفع، فالرفع على الابتداء وما بعده الخبر، وفيه الخلاف المشهور: هل الخبر فعل الشرط أو فعل الجزاء أو هما معا. والنصب من وجهين: أظهرههما على الاشتغال، ويقدر الفعل متأخرا عن اسم الشرط والتقدير: مهما تحضر تأتنا به، فـ "تأتنا" مفسر لـ "تحضر" لأنه من معناه. والثاني: النصب على الظرفية عند من يرى ذلك، وقد تقدم الرد على هذا القول. والضميران من قوله " به " و " بها " عائدان على "مهما" عاد الأول على اللفظ والثاني على المعنى، فإن معناها الآية المذكورة. ومثله قول زهير:


                                                                                                                                                                                                                                      2278 - ومهما تكن عند امرئ من خليقة     وإن خالها تخفى على الناس تعلم



                                                                                                                                                                                                                                      ومثله في ذلك قوله: " ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها " فأعاد الضمير على "ما" مؤنثا لأنها بمعنى الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فما نحن يجوز أن تكون "ما" حجازية أو تميمية، والراء زائدة على كلا القولين، والجملة جواب الشرط فمحلها جزم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية