الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (172) قوله تعالى: من ظهورهم : بدل من قوله "من بني آدم" بإعادة الجار كقوله: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم ، للذين استضعفوا لمن آمن . وهل هو بدل اشتمال أو بدل بعض من كل؟ قولان، الأول لأبي البقاء، والثاني للزمخشري، وهو الظاهر كقولك: ضربت زيدا ظهره، وقطعته يده، لا يعرب أحد هذا بدل اشتمال.

                                                                                                                                                                                                                                      و ذريتهم مفعول به. وقرأ الكوفيون وابن كثير "ذريتهم" بالإفراد، والباقون "ذرياتهم" بالجمع. قال الشيخ: ويحتمل في قراءة الجمع أن يكون مفعول "أخذ" محذوفا لفهم المعنى، و "ذرياتهم" بدل من ضمير "ظهورهم"، كما أن "من ظهورهم" بدل من "بني آدم"، والمفعول المحذوف هو الميثاق كقوله وأخذنا منهم ميثاقا قال: وتقدير الكلام: وإذ أخذ ربك من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد، واستعار أن يكون أخذ الميثاق من الظهر، كأن الميثاق لصعوبته، والارتباط به شيء ثقيل يحمل على الظهر. [ ص: 512 ] وكذلك قرأ الكوفيون وابن كثير في سورة يس وفي الطور في الموضعين: "ذريتهم" بالإفراد، وافقهم أبو عمرو على ما في يس، ونافع وافقهم في أول الطور وهي "ذريتهم بإيمان" دون الثانية وهي "ألحقنا بهم ذرياتهم" فالكوفيون وابن كثير جروا على منوال واحد وهو الإفراد، وابن عامر على الجمع، وأبو عمرو ونافع جمعوا بين الأمرين كما بينت لك.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ في قراءة الإفراد في هذه السورة: ويتعين أن يكون مفعولا بـ "أخذ" وهو على حذف مضاف، أي: ميثاق ذريتهم، يعني أنه لم يجز فيه ما جاز في "ذرياتهم" من أنه بدل والمفعول محذوف، وذلك واضح لأن من قرأ "ذريتهم" بالإفراد لم يقرأه إلا منصوبا، ولو كان بدلا من "هم" في "ظهورهم" لكان مجرورا بخلاف "ذرياتهم" بالجمع، فإن الكسرة تصلح أن تكون علما للجر وللنصب في جمع المؤنث السالم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: بلى جواب لقوله "ألست" قال ابن عباس: لو قالوا: نعم لكفروا، يريد أن النفي إذا أجيب بـ نعم كانت تصديقا له، فكأنهم أقروا بأنه ليس بربهم. هكذا ينقلونه عن ابن عباس رضي الله عنه، وفيه نظر إن صح عنه، وذلك أن هذا النفي صار مقررا، فكيف يكفرون بتصديق التقرير؟ وإنما المانع من جهة اللغة: وهو أن النفي مطلقا إذا قصد إيجابه أجيب بـ بلى، وإن كان مقررا بسبب دخول الاستفهام عليه، وإنما كان ذلك تغليبا لجانب اللفظ، ولا يجوز مراعاة جانب المعنى إلا في شعر كقوله: [ ص: 513 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2333 - أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك بنا تدانى     نعم وترى الهلال كما أراه
                                                                                                                                                                                                                                      ويعلوها النهار كما علاني



                                                                                                                                                                                                                                      فأجاب قوله "أليس" بـ نعم مراعاة للمعنى لأنه إيجاب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: شهدنا هذا من كلام الله تعالى. وقيل: من كلام الملائكة. وقيل: من كلام الله تعالى والملائكة. وقيل: من كلام الذرية. قال الواحدي: "وعلى هذا لا يحسن الوقف على قوله "بلى" ولا يتعلق "أن تقولوا" بـ "شهدنا" ولكن بقوله "وأشهدهم" .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أن تقولوا مفعول من أجله، والعامل فيه: إما شهدنا، أي: شهدنا كراهة أن تقولوا، هذا تأويل البصريين، وأما الكوفيون فقاعدتهم تقدير لا النافية، تقديره: لئلا تقولوا، كقوله أن تميد بكم ، وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2334 - رأينا ما رأى البصراء فيها     فآلينا عليها أن تباعا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: أن لا تباع، وأما "وأشهدهم"، أي: أشهدهم لئلا تقولوا أو كراهة أن تقولوا. وقد تقدم أن الواحدي قد قال: إن شهدنا إذا كان من قول الذرية يتعين أن يتعلق "أن تقولوا" بـ "أشهدهم" كأنه رأى أن التركيب يصير: شهدنا أن تقولوا سواء قرئ بالغيبة أو الخطاب، والشاهدون هم القائلون في المعنى، فكان ينبغي أن يكون التركيب: شهدنا أن نقول نحن. وهذا غير لازم لأن المعنى: شهد بعضهم على بعض، فبعض الذرية قال: شهدنا أن يقول البعض الآخر كذلك. وذكر الجرجاني لبعضهم وجها آخر وهو أن يكون قوله "وإذ أخذ ربك" إلى قوله: "قالوا بلى" تمام قصة الميثاق، ثم [ ص: 514 ] ابتدأ عز وجل خبرا آخر بذكر ما يقوله المشركون يوم القيامة فقال تعالى: شهدنا بمعنى نشهد كما قال الحطيئة:


                                                                                                                                                                                                                                      2335 - شهد الحطيئة حين يلقى ربه      . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      أي: يشهد، فيكون تأويله "يشهد أن تقولوا".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عمرو "يقولوا" في الموضعين بالغيبة جريا على الأسماء المتقدمة، والباقون بالخطاب، وهذا واضح على قولنا إن "شهدنا" مسند لضمير الله تعالى. وقيل: على قراءة الغيبة يتعلق "أن يقولوا" بأشهدهم، ويكون "قالوا شهدنا" معترضا بين الفعل وعلته، والخطاب على الالتفات فيكون الضميران لشيء واحد. وهل هذا من باب الحقيقة وأن الله أخرج الذرية من ظهره بأن مسح عليه فخرجوا كالذر وأنطقهم فشهدوا الكل بأنه ربهم، فالمؤمنون قالوه حقيقة في الأزل والمشركون قالوه تقية، وعلى هذا جماعة كثيرة، أو من باب التمثيل، قاله جماعة منهم الزمخشري، وجعله كقوله تعالى: ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ، وقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      2336 - إذ قالت الأنساع للبطن الحقي

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 515 ] وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2337 - قالت له ريح الصبا قرقار



                                                                                                                                                                                                                                      إلى غير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية