الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب القتال مع مانعي الزكاة.

                                                                            1567 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، نا محمد بن إسماعيل ، نا أبو اليمان الحكم بن نافع، أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري ، نا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة ، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر، وكفر من العرب، فقال عمر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله " فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت أنه الحق.

                                                                            ورواه البخاري ، عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، [ ص: 489 ] عن الزهري ، بإسناده، وقال: والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه.

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مسلم، عن قتيبة، عن ليث، عن عقيل، عن الزهري .

                                                                            قال أبو سليمان الخطابي : هذا الحديث أصل كبير في الدين، وفيه أنواع من العلم، وأبواب من الفقه، ومما يجب تقديمه أن يعلم أن أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا صنفين: صنف منهم ارتدوا عن الدين، وعادوا إلى الكفر، وهذه الفرقة طائفتان: طائفة منهم أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم، وأصحاب الأسود العنسي، من أهل اليمن وغيرهم، الذين صدقوهما على دعوى النبوة، وطائفة ارتدوا عن الدين، وأنكروا الشرائع، وعادوا إلى ما كانوا عليه من أمر الجاهلية، حتى لم يكن يسجد لله تعالى على وجه الأرض إلا في ثلاث مساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس بالبحرين في قرية يقال لها: جواثا، [ ص: 490 ] وعنى أبو هريرة بقوله: "وكفر من كفر من العرب" هؤلاء الفرق، ولم يشك عمر رضي الله عنه في قتل هؤلاء، ولم يعترض على أبي بكر في أمرهم، بل اتفقت الصحابة على قتالهم وقتلهم، ورأى أبو بكر سبي ذراريهم ونسائهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد علي بن أبي طالب جارية من سبي بني حنيفة، فولدت له محمد بن علي الذي يدعى: ابن الحنفية.

                                                                            ثم لم ينقرض عصر الصحابة حتى [ ص: 491 ] أجمعوا على أن المرتد لا يسبى.

                                                                            والصنف الآخر من قوم لم يرتدوا عن الدين، لكنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة، وأنكروا فرض الزكاة، وزعموا أن الخطاب في قوله سبحانه وتعالى: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، وعرضت الشبهة لعمر في قتال هؤلاء لتمسكهم بكلمة التوحيد، وهؤلاء في الحقيقة أهل بغي، وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان، لدخولهم في غمار أهل الردة، فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة، إذ كانت أعظم الأمرين، وأهمهما.

                                                                            والردة: اسم لغوي ينطلق على كل من كان مقبلا على أمر، فارتد عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة، ومنع الحق، وكان الاعتراض من عمر تعلقا بظاهر الكلام، فقال له أبو بكر: إن الزكاة حق المال، يريد أن القضية قد تضمنت عصمة الدم والمال بإيفاء شرائطها، ثم قايسه بالصلاة، ورد الزكاة إليها، فكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعا من رأي الصحابة، فرد المختلف فيه إلى المتفق عليه، فاجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر بالعموم، ومن أبي بكر بالقياس، ثم تابعه عمر عليه، فدل ذلك على أن العموم يخص بالقياس.

                                                                            وقول عمر: "ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق" إشارة إلى أنه لم يكن في تلك الموافقة مقلدا، [ ص: 492 ] بل انشرح صدره بالحجة التي أدلى بها أبو بكر، والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة.

                                                                            وفي هذه القضية دليل على تصويب رأي علي في قتال أهل البغي في زمانه، وأنه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم، أما اليوم في زماننا إذا أنكرت طائفة من المسلمين فرض الزكاة، وامتنعوا من أدائها، كانوا كفارا بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وبين أولئك القوم حيث لم يقطع بكفرهم، وكان قتال المسلمين إياهم على استخراج الحق منهم دون القصد إلى دمائهم، أنهم كانوا قريبي العهد بالزمان الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام، ووقعت الفترة بموت النبي صلى الله عليه وسلم وهم جهال بأمور الدين، لحدوث عهدهم بالإسلام، فداخلتهم الشبهة، فعذروا، وأما اليوم، فقد استفاض علم وجوب الزكاة حتى عرفه الخاص والعام، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما اجتمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشرا، كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم في نحوها من الأحكام، إلا أن يكون رجل حديث عهد بالإسلام، ولا يعرف حدوده، فإذا أنكر شيئا منها جهالة لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم.

                                                                            فأما ما كان الإجماع فيه معلوما من طريق علم الخاصة، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن قاتل العمد لا يرث، وأن للجدة السدس، وما أشبه [ ص: 493 ] ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة.

                                                                            وقوله: "والله لو منعوني عناقا" فيه دليل على وجوب الزكاة في السخال والفصلان والعجاجيل، وأنه إذا ملك نصابا من الصغار بأن حدثت الأولاد في خلال حول الأمهات، ثم ماتت الأمهات قبل الحول، وبقيت الصغار نصابا يؤخذ منها صغيرة، ولا يكلف صاحبها كبيرة، وهذا قول الأوزاعي ، والشافعي، وأبي يوسف، وإسحاق، وقال مالك: يجب فيها كبيرة، ويروى هذا عن الثوري .

                                                                            وذهب أبو حنيفة في أظهر أقاويله إلى أنه لا شيء فيها، ويروى ذلك عن الثوري ، وبه قال أحمد.

                                                                            وأما رواية من روى: "والله لو منعوني عقالا"، فقال أبو عبيد: العقال صدقة عام، وقال غيره: العقال الحبل الذي يعقل [ ص: 494 ] به البعير، وعلى رب المال تسليمه مع البعير إذا لم يمكن تسليمه إلا معه.

                                                                            وقال ابن عائشة : كان من عادة المصدق إذا أخذ الصدقة، أن يعمد إلى قرن، وهو الحبل، فيقرن به بين بعيرين يشده في أعناقهما، لئلا تتشرد الإبل، فتسمى عند ذلك القرائن، فكل قرنين منها عقال.

                                                                            وقال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: إذا أخذ المصدق أعيان الإبل، قيل: أخذ عقالا، وإذا أخذ أثمانها، قيل: أخذ نقدا، وأنشد لبعضهم.


                                                                            أتانا أبو الخطاب يضرب طبله فرد ولم يأخذ عقالا ولا نقدا.



                                                                            وتأول بعضهم على معنى وجوب الزكاة في العقال إذا كان من عروض التجارة.

                                                                            وفي القصة دليل على أن الخلاف إذا حدث في عصر، ثم لم ينقرض [ ص: 495 ] العصر حتى زال الخلاف كان إجماعا، وما مضى من الخلاف كأن لم يكن.

                                                                            هذا كله معنى ما ذكره الخطابي في كتاب معالم السنن، نقلته على طريق الاختصار، وبالله التوفيق.

                                                                            قال الإمام رحمه الله: وفي الحديث دليل على أن الردة لا تسقط الزكاة، ولا شيئا مما كان يلزمه في الإسلام. [ ص: 496 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية