الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب الشهيد في سبيل الله لا يغسل ولا يصلى عليه.

                                                                            1500 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، نا محمد بن إسماعيل ، نا قتيبة بن سعيد، نا الليث، عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن جابر بن عبد الله، أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ " فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة".

                                                                            وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا.


                                                                            هذا حديث صحيح.

                                                                            وروي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ، قال: أمر رسول [ ص: 366 ] الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم.

                                                                            قال رحمه الله: هذا هو السنة في الشهيد أن ينزع عنه الفراء والجلود، والخفاف، والأسلحة، ويدفن بما عليه من ثياب العامة.

                                                                            واتفق العلماء على أن الشهيد المقتول في معركة الكفار لا يغسل، واختلفوا في الصلاة عليه، فذهب أكثرهم إلى أنه لا يصلى عليه، وهو قول أهل المدينة، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد.

                                                                            وذهب قوم إلى أنه يصلى عليه، لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة [ ص: 367 ] وهو قول الثوري ، وأصحاب الرأي، وبه قال إسحاق .

                                                                            وتأول الأولون ما روي من صلاته على حمزة، فجعلها بمعنى الدعاء، كما روي عن عقبة بن عامر، قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات".

                                                                            واختلفوا فيمن أثخن في المعركة، فحمل وبه رمق، فمات بعده هل يغسل ويصلى عليه، أم لا؟ فذهب قوم إلى أنه يغسل ويصلى عليه، وبه قال مالك .

                                                                            وفي الحديث دليل على أنه يجوز دفن الجماعة في القبر الواحد، ويقدم إلى القبلة أفضلهم، روي عن هشام بن عامر، قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "احفروا، وأوسعوا، وأحسنوا".

                                                                            ويروى: "أعمقوا وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وقدموا أكثرهم قرآنا".

                                                                            فمات أبي فقدم بين يدي رجلين.

                                                                            قال رحمه الله: فإذا وضعت جنائز للصلاة عليها، قرب إلى الإمام أفضلهم، روي عن عمار مولى الحارث بن نوفل، أنه شهد [ ص: 368 ] جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر بن الخطاب، وابنها زيد بن عمر، فجعل الغلام مما يلي الإمام، وفي القوم ابن عباس ، وأبو سعيد الخدري، وأبو قتادة ، وأبو هريرة، فقالوا: "هذه السنة".

                                                                            وعن عثمان، وابن عمر : كانوا يجعلون الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة.

                                                                            وفيه دليل أيضا على أن الأكفان إذا ضاقت جاز أن يكفن الجماعة في الثوب الواحد، وقد روي عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك ، [ ص: 369 ] قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة يوم أحد، فوقف عليه، فرآه قد مثل به، فقال: "لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية، حتى يحشر يوم القيامة من بطونها".

                                                                            وقلت الثياب، وكثرت القتلى، فكان الرجل والرجلان والثلاثة يكفنون في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنهم أيهم أكثر قرآنا، فيقدمه إلى القبلة، فدفنهم، ولم يصل عليهم.

                                                                            أما القتيل ظلما في غير القتال: فيغسل، ويصلى عليه، وإن كان شهيدا في الثواب، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غسل وكفن وصلي عليه، وكان شهيدا. [ ص: 370 ] .

                                                                            وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق، وصاحب ذات الجنب، والمبطون، وصاحب الحريق، والذي يموت تحت الهدم، والمرأة تموت بجمع "، يريد: المرأة تموت وفي بطنها ولد، وقيل: هي المرأة تموت ولم يمسسها رجل، فهؤلاء شهداء في ثواب الآخرة، وفرض غسلهم والصلاة عليهم باق.

                                                                            والمقتول في الحد يغسل ويصلى عليه عند أكثر العلماء، قال الشافعي : لا تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة برا كان أو فاجرا. [ ص: 371 ] .

                                                                            واختلف أصحابه فيمن قتل في ترك الصلاة، فالأكثرون، قالوا: يصلى عليه، وكان الزهري ، يقول: يصلى على من يقاد منه، ولا يصلى على من قتل في رجم.

                                                                            وقال مالك: من قتله الإمام في حد، فلا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه غيره إن شاء، لما روي عن أبي برزة الأسلمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لم يصل على ماعز بن مالك، ولم ينه عن الصلاة عليه".

                                                                            قال رحمه الله: والصحيح ما روي عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال له خيرا، وصلى عليه. [ ص: 372 ] .

                                                                            وقال أبو حنيفة : من قتل من المحاربين أو صلب لم يصل عليه، وكذلك الفئة الباغية لا يصلى على قتلاهم عقوبة لهم، وذهب الأكثرون إلى أنه يصلى عليهم.

                                                                            فأما المقتول من أهل العدل، فاختلف القول في أنه هل يغسل، وهل يصلى عليه؟ فقد قيل: لا يغسل ولا يصلى عليه، كالقتيل في معترك الكفار، وقيل: يغسل ويصلى عليه لأنه مقتول مسلم. [ ص: 373 ] .

                                                                            وروي عن الشعبي ، أن عليا صلى على عمار بن ياسر، وهاشم بن عتبة، فجعل عمارا مما يليه، وهاشما أمامه، فلما أدخلا القبر جعل عمارا أمامه وهاشما مما يليه.

                                                                            قال الشافعي : وبلغنا أن طائرا ألقى يدا بمكة في وقعة الجمل، فعرفوها بالخاتم، فغسلوها وصلوا عليها.

                                                                            واختلفوا في الصلاة على من قتل نفسه، فذهب أكثرهم إلى أنه يصلى عليه، وكان عمر بن عبد العزيز لا يرى الصلاة عليه، وبه قال الأوزاعي ، وقال أحمد: لا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه غيره، واحتجوا بما روي عن جابر بن سمرة، أن رجلا قتل نفسه فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                            قال إسحاق الحنظلي : إنما لم يصل عليه تحذيرا للناس عن مثل ما فعل.

                                                                            والسقط يصلى عليه إذا مات بعد أن استهل، واختلفوا فيه إذا مات قبل أن يستهل، فذهب قوم إلى أنه لا يصلى عليه، [ ص: 374 ] يروى ذلك عن جابر بن عبد الله، وابن عباس ، وبه قال الزهري ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، ورفع بعضهم عن جابر، قال: "الطفل لا يصلى عليه حتى يستهل" والأصح أنه موقوف عليه.

                                                                            وذهب قوم إلى أنه يصلى عليه، يروى ذلك عن ابن عمر ، وأبي هريرة، وبه قال ابن سيرين، وابن المسيب، وهو قول أحمد، [ ص: 375 ] وإسحاق، لما يروى عن المغيرة بن شعبة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "السقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة".

                                                                            قال إسحاق: إنما الميراث بالاستهلال، أما الصلاة، فإنه يصلى عليه، لأنه نسمة كتب عليه الشقاء والسعادة. [ ص: 376 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية