الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب الحث على الوصية.

                                                                            قال الله سبحانه وتعالى: ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية ) ، وقال عز وجل: ( فمن خاف من موص جنفا ) ، أي: ميلا، متجانف: مائل.

                                                                            قوله: "خيرا"، قال قتادة : الخير: المال، كان يقال ألفا فما فوق ذلك.

                                                                            واختلفوا في حكم هذه الآية، فقال قوم: كانت الوصية للوالدين والأقربين فرضا، فنسخت الوصية للذين يرثون منهم بآية الميراث، وبقيت فريضة للذين لا يرثون من الوالدين والأقارب، وهو قول ابن عباس ، وبه قال الحسن، وطاوس، وقتادة. [ ص: 277 ] .

                                                                            قال طاوس: من أوصى لقوم سماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم، وردت إلى ذوي قرابته.

                                                                            وذهب آخرون إلى أن فريضة الوصية منسوخة في حق الكافة وهي مستحبة.

                                                                            1457 - أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد الحسن الشيرزي، أنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ، عن مالك بن أنس ، عن نافع، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة".

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه محمد، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، وأخرجه مسلم، عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله، عن نافع [ ص: 278 ] قوله: "ما حق امرئ" معناه: ما حقه من جهة الحزم والاحتياط إلا ووصيته مكتوبة عنده، لأنه لا يدري متى يدركه الموت، فربما يأتيه بغتة، فيمنعه عن الوصية.

                                                                            وفيه دليل على أن الوصية مستحبة غير واجبة، لأنه فوض إلى إرادته، فقال: "له شيء يوصي فيه" يعني يريد أن يوصي فيه، وهو قول عامة أهل العلم.

                                                                            وذهب بعض التابعين إلى إيجابها ممن لم يجعل الآية منسوخة في حق الكافة، ثم الاستحباب في حق من له مال دون من ليس له فضل، وهذا في الوصية المتبرع بها من صدقة، وبر وصلة، فأما أداء الديون والمظالم التي يلزمه الخروج منها، ورد الأمانات، فواجب عليه أن يوصي بها، وأن يتقدم إلى أوليائه فيها، لأن أداء الحقوق، والأمانات فرض واجب عليه.

                                                                            وقد روي عن عائشة ، قالت: "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا، ولا درهما، ولا بعيرا، ولا شاة، ولا أوصى بشيء". [ ص: 279 ] .

                                                                            قولها: "ولا أوصى بشيء" تريد به وصية المال، لأن الإنسان إنما يوصي في مال يورث منه، وهو صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا يورث منه، فيوصي فيه، وقد أوصى بأمور، فكان من وصيته: "الصلاة وما ملكت أيمانكم".

                                                                            وقال: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم".

                                                                            فاختلفوا في جواز وصية الصبي، والسفيه وتدبيرهما، فذهب أكثرهم إلى أنه لا تصح، كما لا يصح منه الإعتاق، روي ذلك عن ابن عباس والحسن، وهو قول الزهري والشافعي .

                                                                            وقال قوم: يجوز، لما روي عن عمرو بن سليم الزرقي، أنه قيل [ ص: 280 ] لعمر بن الخطاب: إن ههنا غلاما يفاعا لم يحتلم من غسان، وورثته بالشام، وهو ذو مال، وليس له ههنا إلا ابنة عم له، فقال عمر: فأوص لها، فأوصى لها بمال.

                                                                            وهو قول شريح، وإبراهيم، وعمر بن عبد العزيز، قال شريح : إذا أصاب الغلام في وصيته جازت، وهذا مذهب مالك. [ ص: 281 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية