الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            1490 - قال: ونا سفيان، عن الزهري ، عن سعيد: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، فكبر عليه أربعا".

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجاه من طرق عن الزهري .

                                                                            قال رحمه الله: في هذا الحديث أنواع من الفقه، منها جواز النعي، وقد كره قوم النعي، وهو أن ينادي في الناس، أن فلانا قد مات، ليشهدوا جنازته.

                                                                            روى إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أنه قال: إياكم والنعي، فإن النعي من عمل الجاهلية.

                                                                            ورفعه بعضهم، والوقف أصح.

                                                                            وروي عن حذيفة، أنه قال: إذا مت فلا تؤذنوا بي أحدا، إني [ ص: 341 ] أخاف أن يكون نعيا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي.

                                                                            وذهب قوم إلى أنه لا بأس أن يعلم به إخوانه، وأقاربه، وبه قال إبراهيم النخعي ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مؤتة: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب".

                                                                            والنجاشي كان مسلما يكتم إيمانه فيما بين قوم كفار، ولم يكن بحضرة من يقوم بحقه في الصلاة عليه، فلزم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم به، وكذلك من علم بموت رجل بمضيعة، لم يصل عليه، فعليه أن يصلي عليه.

                                                                            ومن فوائد الحديث جواز الصلاة على الميت الغائب، ويتوجهون إلى القبلة، لا إلى بلد الميت إن كان في غير جهة القبلة، وهو قول أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أن الصلاة على الميت الغائب لا تجوز، وهو قول أصحاب الرأي، وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا به، [ ص: 342 ] وهذا ضعيف، لأن الاقتداء به في أفعاله واجب على الكافة ما لم يقم دليل التخصيص، ولا تجوز دعوى التخصيص ههنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه وحده، إنما صلى مع الناس.

                                                                            قال الخطابي : ليس فيه مستدل، لأن النجاشي كان مسلما بين ظهراني قوم كفار، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم حقه في الصلاة عليه، فأما الميت المسلم في البلد الآخر، فليس كهؤلاء، لأنه قد قضى حقه في الصلاة عليه غيره من المسلمين في بلده.

                                                                            ومنها أنه يكبر على الجنازة أربعا، وهو قول أكثر أهل [ ص: 343 ] العلم من الصحابة، فمن بعدهم، وإليه ذهب الثوري ، ومالك، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وهو آخر ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، قال سعيد بن المسيب: يكبر [ ص: 344 ] بالليل والنهار، والسفر والحضر، أربعا.

                                                                            وذهب بعض أهل العلم من الصحابة، وغيرهم إلى أنه يكبر خمسا، وقال أحمد، وإسحاق: إذا كبر الإمام خمسا، فإنه يتبع الإمام.

                                                                            روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا، وإنه كبر على جنازة خمسا، فسألناه عن ذلك، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها.

                                                                            وروي عن علي أنه كان يكبر على أهل بدر ستا، وعلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خمسا، وعلى سائر الناس أربعا.

                                                                            وعن ابن مسعود، أنه قال: ليس له وقت، كبر ما كبر الإمام، فإذا انصرف فانصرف. [ ص: 345 ] .

                                                                            وقال إبراهيم النخعي : قدم رجل من أصحاب معاذ، فكبر على جنازة خمسا، فعجب منه أصحاب عبد الله، فقال عبد الله: كل ذلك قد كان، أربعا، وخمسا، وستا، وسبعا.

                                                                            فاجتمعنا على أربع.

                                                                            وروي عن أبي وائل، قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا، وخمسا، وأربعا، فجمعهم عمر بن الخطاب على أربع تكبيرات.

                                                                            وكان ابن عباس يرى التكبير على الجنازة ثلاثا.

                                                                            وقال حميد: صلى بنا أنس، فكبر ثلاثا، ثم سلم، فقيل له، فاستقبل القبلة، ثم كبر الرابعة، ثم سلم.

                                                                            ومن أدرك الإمام في صلاة الجنازة، كبر، ثم إذا سلم الإمام، قضى ما فاته من التكبيرات، يروى ذلك عن ابن سيرين، وابن شهاب. [ ص: 346 ] .

                                                                            قال أنس بن مالك : التكبيرة الواحدة استفتاح الصلاة.

                                                                            قال رحمه الله: والتحليل عنها بالتسليم، واختلفوا في عدده، فروى عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل التسليم في الصلاة، يعني: تسليمتين.

                                                                            وعن عبد الله بن أبي أوفى، أنه سلم عن يمينه، وعن شماله، وقال: "إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع".

                                                                            وروي عن أبي هريرة ، مرفوعا: تسليمة واحدة.

                                                                            وروي عن [ ص: 347 ] علي، وابن عمر، وابن عباس ، وجابر تسليمة واحدة.

                                                                            وروى مجاهد، عن ابن عباس ، أنه كان يسلم في الجنازة تسليمة خفية.

                                                                            وعن عبد الله بن عمر أنه كان إذا صلى على الجنائز يسلم حتى يسمع من يليه، وعن إبراهيم أنه سلم تسليمة واحدة عن يمينه.

                                                                            ورفع اليدين سنة في التكبيرة الأولى من صلاة الجنازة، واختلف أهل العلم في سائر التكبيرات، فذهب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عبد الله بن عمر، أنه يرفع يديه حذو منكبيه في كل تكبيرة، وعن أنس مثله، وبه قال سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ويروى عن عطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول ابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

                                                                            وذهب قوم إلى أنه لا يرفع إلا في التكبيرة الأولى، وهو قول [ ص: 348 ] الثوري ، وأصحاب الرأي.

                                                                            واختلفوا في الجمع بين اليدين، والقبض باليمين على الشمال، فذهب بعضهم إلى أن يقبض كما في الصلاة، روي عن أبي هريرة ، بإسناد غريب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر على جنازة، فرفع يديه في أول تكبيرة، ووضع اليمنى على اليسرى.

                                                                            وذكر عن ابن المبارك أنه لا يقبض.

                                                                            وقال الحسن: أدركت الناس وأحقهم بالصلاة على جنائزهم من رضوهم لفرائضهم.

                                                                            قال الشافعي : فالولي أحق بالصلاة من الوالي، لأن هذا من الأمور الخاصة، وأحق قرابته الأب، ثم الجد من قبل الأب، ثم الولد، وولد الولد، ثم الأخ للأب والأم، ثم الأخ للأب، ثم أقربهم به عصبة، قال رضي الله عنه: وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم.

                                                                            وأوصى عبد الله بن مغفل، قال: ليلني أصحابي، ولا يصلي علي ابن زياد.

                                                                            وأوصى عبد الله بن مسعود: أن يصلي عليه الزبير بن عوام.

                                                                            وذهب جماعة إلى أن الوالي أحق من الولي، وهو قول علقمة، [ ص: 349 ] والأسود، وسويد بن غفلة، وعطاء، وطاوس، والنخعي، ومجاهد، وسلم، والقاسم، والحسن.

                                                                            وقال الحسن: الزوج أحق بالصلاة على المرأة من الأخ.

                                                                            وروي عن عكرمة، عن ابن عباس ، قال: لما صلي على رسول الله أدخل الرجال، فصلوا عليه بغير إمام أرسالا حتى فرغوا، ثم النساء، فصلين عليه، ثم الصبيان، فصلوا عليه، ثم العبيد، فصلوا عليه أرسالا لم يؤمهم أحد.

                                                                            قال الشافعي : وذلك لعظم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، وتنافسهم في أن لا يتولى الإمامة في الصلاة عليه أحد، وصلوا في المسجد عليه مرة بعد مرة. [ ص: 350 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية