الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
139 - وحدثنا الفريابي ، قال : حدثنا الحسن بن علي الحلواني بطرسوس ، سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ، قال : سمعت مطرف بن عبد الله ، يقول : سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده الزائغون في الدين يقول : قال [ ص: 461 ] عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - : " سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها اتباع لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد من الخلق تغييرها ، ولا تبديلها ، ولا النظر في شيء خالفها ، من اهتدى بها فهو مهتد ، ومن استنصر بها فهو منصور ، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا " .

قال محمد بن الحسين :

فإن قال قائل : هذا الذي ذكرته وبينته قد عرفناه ، فإذا لم تكن مناظرتنا في شيء من الأهواء التي ينكرها أهل الحق ، ونهينا عن الجدال والمراء والخصومة ، فإن كانت مسألة من الفقه في الأحكام ، مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والنكاح والطلاق ، وما أشبه ذلك من الأحكام ، هل لنا مباح أن نناظر فيه ونجادل أم هو محظور علينا ؟ عرفنا ما يلزم فيه ، كيف السلامة منه ؟

قيل له : هذا الذي ذكرته ما أقل من يسلم من المناظرة فيه ، حتى لا [ ص: 462 ] يلحقه فيه فتنة ولا مأثم ، ولا يظفر فيه الشيطان .

فإن قال كيف ؟

قيل له : هذا قد كثر في الناس جدا ؛ في أهل العلم والفقه في كل بلد يناظر الرجل الرجل ، يريد مغالبته ، ويعلو صوته ، والاستظهار عليه بالاحتجاج ، فيحمر لذلك وجهه ، وتنتفخ أوداجه ، ويعلو صوته ، وكل واحد منهما يحب أن يخطئ صاحبه ، وهذا المراد من كل واحد منهما خطأ عظيم ، لا تحمد عواقبه ، ولا يحمده العلماء من العقلاء ؛ لأن مرادك أن يخطئ مناظرك : خطأ منك ، ومعصية عظيمة ، ومراده أن تخطئ : خطأ منه ومعصية ، فمتى يسلم الجميع ؟ ! فإن قال قائل : فإنما نناظر لتخرج لنا الفائدة .

قيل له : هذا كلام ظاهر ، وفي الباطن غيره .

[ ص: 463 ] وقيل له : إذا أردت وجه السلامة في المناظرة لتطلب الفائدة كما ذكرت ، فإذا كنت أنت حجازيا ، والذي يناظرك عراقيا ، وبينكما مسألة ، تقول أنت : حلال ، ويقول هو : بل حرام . فإن كنتما تريدان السلامة وطلب الفائدة فقل : - رحمك الله - هذه المسألة قد اختلف فيها من تقدم من الشيوخ ، فتعال حتى نتناظر فيها ؛ مناصحة لا مغالبة ، فإن يكن الحق فيها معك اتبعتك وتركت قولي ، وإن يكن الحق معي اتبعتني وتركت قولك ، لا أريد أن تخطئ ولا أغالبك ، ولا تريد أن أخطئ ولا تغالبني ، فإن جرى الأمر على هذا فهو حسن جميل ، وما أعز هذا في الناس .

فإذا قال كل واحد منهما : لا نطيق هذا ، وصدقا عن أنفسهما . قيل : لكل واحد منهما : قد عرفت قولك وقول صاحبك وأصحابك واحتجاجهم وأنت فلا ترجع عن قولك ، وترى أن خصمك على الخطإ ، وقال خصمك كذلك ، فما بكما إلى المجادلة والمراء والخصومة حاجة ، إذا كان كل واحد منكما ليس يريد الرجوع عن مذهبه ، ، وإنما مراد كل واحد منكما أن يخطئ صاحبه ، فأنتما آثمان بهذا المراد ، أعاذ الله العلماء العقلاء عن مثل هذا المراد .

[ ص: 464 ] فإذا لم تجر المناظرة على المناصحة ، فالسكوت أسلم ، قد عرفت ما عندك وما عنده ، وعرف ما عنده وما عندك ، والسلام .

ثم لا تأمن أن يقول لك في مناظرته : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقول : هذا حديث ضعيف ، أو تقول لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم ، كل ذلك لترد قوله ، وهذا عظيم ، وكذلك يقول لك أيضا ، فكل واحد منكما يرد حجة صاحبه بالمجازفة والمغالبة .

وهذا موجود في كثير ممن رأينا ، يناظر ويجادل حتى ربما خرق بعضهم على بعض .

هذا الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ، وكرهه العلماء ممن تقدم ، والله أعلم .

[ ص: 465 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية