الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
321 - أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد الحنائي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد بن حساب ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : أخبرنا يونس ، وهشام ، والمعلى بن زياد ، عن الحسن قال : قالت عائشة رضي الله عنها : " دعوة كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على [ ص: 731 ] دينك ) قالت : قلت قلت يا رسول الله : ما دعوة أسمعك تكثر أن تدعو بها ؟ فقال : إنه ليس من أحد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله تعالى ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه ) .

قال محمد بن الحسين رحمه الله :

ثم نذكر ما قالته الأنبياء عليهم السلام خلاف ما قالته القدرية .

قال نوح عليه السلام لقومه لما قالوا : ( يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ) .

وقال شعيب لقومه قال الله تعالى : ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم [ ص: 732 ] بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) الآية .

وقال شعيب أيضا لقومه : ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) .

وقال تعالى في قصة يوسف عليه السلام : ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) .

وقال يوسف عليه السلام : ( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ) .

وقال إبراهيم عليه السلام : ( رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) .

وقال موسى عليه السلام لما دعا على فرعون وقومه فقال : ( ربنا [ ص: 733 ] إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ) . . . .

وقال تعالى فيما أخبر عن أهل النار : ( وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) .

قال محمد بن الحسين :

فقد أقر أهل النار أن الهداية من الله لا من أنفسهم .

قال محمد بن الحسين :

اعتبروا - رحمكم الله - [ بقول ] الأنبياء عليهم السلام ، وقول أهل النار ، كل ذلك حجة على القدرية .

ثم اعلموا - رحمكم الله - أن الله بعث رسله ، وأمرهم بالبلاغ حجة على من أرسلوا إليهم ، فلم يجبهم إلى الإيمان إلا من سبقت له من الله تعالى الهداية ، ومن لم تسبق له من الله الهداية ، وفي مقدوره أنه شقي من أهل النار لم يجبهم ، وثبت على كفره . وقد أخبركم الله يا [ مسلمون ] بذلك ، [ ص: 734 ] نعم ، وقد حرص نبينا صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله على هداية أممهم ، فما نفع حرصهم ، إذا كان في مقدور الله أنهم لا يؤمنون .

فإن قال قائل : بين لنا هذا الفصل من كتاب الله تعالى ، فإنا نحتاج إلى معرفته .

قيل له : قال الله تعالى في سورة النحل : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) .

ثم قال لنبيه عليه السلام : ( إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ) .

ثم قال لنبيه عليه السلام وقد أحب هداية بعض من يحبه ، فأنزل الله تعالى : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ) .

ثم قال لنبيه عليه السلام أيضا : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن [ ص: 735 ] أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) .

وقال تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ) .

قال محمد بن الحسين : كل هذا يبين لكم الرب تعالى أن الأنبياء إنما بعثوا مبشرين ومنذرين ، وحجة على الخلق ، فمن شاء الله تعالى له الإيمان آمن ، ومن لم يشأ له الإيمان لم يؤمن ، قد فرغ الله تعالى من كل شيء ، قد كتب الطاعة لقوم ، وكتب المعصية على قوم ، ويرحم أقواما بعد معصيتهم إياه ، ويتوب عليهم ، وقوم لا يرحمهم ولا يتوب عليهم : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية