الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
143 - حدثنا الفريابي ، قال : حدثني محمد بن داود ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، قال : سمعت محمدا - يعني : ابن سيرين - وما رآه رجل في شيء ، فقال محمد : " إني قد أعلم ما تريد ، وأنا أعلم بالمراء منك ، ولكني لا أماريك " .

[ ص: 454 ] قال محمد بن الحسين : ألم تسمع رحمك الله إلى ما تقدم ذكرنا له من قول أبي قلابة : " لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة ، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم " . أو لم تسمع إلى قول الحسن وقد سأله رجل عن مسألة ، فقال : تناظرني في الدين ؟ فقال له الحسن : " أما أنا فقد أبصرت ديني ، فإن كنت أنت أضللت دينك فالتمسه " .

أو لم تسمع إلى قول عمر بن عبد العزيز : " من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل " .

قال محمد بن الحسين - رحمه الله - :

فمن اقتدى بهؤلاء الأئمة سلم له دينه ، إن شاء الله تعالى .

فإن قال قائل : فإن اضطرني الأمر وقتا من الأوقات إلى مناظرتهم وإثبات الحجة عليهم ألا أناظرهم ؟

قيل له : الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء ، فيمتحن الناس [ ص: 455 ] ويدعوهم إلى مذهبه ، كفعل من مضى في وقت أحمد بن حنبل ، ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس ، ودعوهم إلى مذهبهم السوء ، فلم يجد العلماء بدا من الذب عن الدين ، وأرادوا بذلك معرفة العامة الحق من الباطل ، فناظروهم ضرورة لا اختيارا ، فأثبت الله - تعالى - الحق مع أحمد بن حنبل ، ومن كان على طريقته ، وأذل الله - تعالى - المعتزلة وفضحهم ، وعرفت العامة أن الحق ما كان عليه أحمد ومن تابعه إلى يوم القيامة ، وأرجو أن يعيذ الله الكريم أهل العلم من أهل السنة والجماعة من محنة تكون أبدا .

وبلغني عن المهتدي - رحمه الله - أنه قال : ما قطع أبي - يعني : الواثق - إلا شيخ جيء به من المصيصة ، فمكث في السجن مدة ثم إن أبي ذكره يوما فقال : علي بالشيخ ، فأتي به مقيدا ، فلما أوقف بين يديه سلم ، فلم يرد عليه السلام ، فقال له الشيخ : " يا أمير المؤمنين ، ما استعملت معي أدب الله تعالى ، ولا أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : ( وإذا [ ص: 456 ] حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برد السلام . فقال له : وعليك السلام ، ثم قال لابن أبي دؤاد : سله . فقال : يا أمير المؤمنين ! أنا محبوس مقيد ، أصلي في الحبس بتيمم ، منعت الماء ، فمر بقيودي تحل ، ومر لي بماء أتطهر وأصلي ، ثم سلني . قال : فأمر بحل قيده ، وأمر له بماء فتوضأ وصلى . ثم قال لابن أبي دؤاد : سله . فقال الشيخ : المسألة لي ، تأمره أن يجيبني ، فقال : سل ، فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد فقال : أخبرني عن هذا الذي تدعو الناس إليه ، أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا . قال : فشيء دعا إليه أبو بكر بعده ؟ قال : لا ، قال : فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب بعدهما ؟ قال : لا . قال : فشيء دعا إليه عثمان بن عفان بعدهم ؟ فقال : لا . قال : فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب بعدهم ؟ قال : لا . قال : فشيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي رضي اللهم عنهم ، [ ص: 457 ] ، تدعو أنت الناس إليه ؟ ليس يخلو أن تقول : علموه أو جهلوه ، فإن قلت : علموه وسكتوا عنه ، وسعنا وإياك ما وسع القوم من السكوت ، وإن قلت : جهلوه وعلمته أنا ، فيا لكع بن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم شيئا تعلمه أنت وأصحابك ! ! قال المهتدي : فرأيت أبي وثب قائما ، ودخل الحيزى ، وجعل ثوبه في فيه ، يضحك ، ثم جعل يقول : صدق ؛ ليس يخلو من أن نقول : جهلوه أو علموه ؛ فإن قلنا : علموه ، وسكتوا عنه ، وسعنا من السكوت ما وسع القوم ، وإن قلنا : جهلوه وعلمته أنت فيا لكع بن لكع ! يجهل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا تعلمه أنت ، وأصحابك ! ثم قال : يا أحمد . قلت : لبيك ، قال : لست أعنيك ، إنما أعني ابن أبي دؤاد ، فوثب إليه فقال : أعط هذا الشيخ نفقة وأخرجه عن بلدنا " .

قال محمد بن الحسين :

وبعد هذا فأمر بحفظ السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنن أصحابه رضي الله عنهم ، والتابعين لهم بإحسان ، وقول أئمة المسلمين ؛ مثل مالك بن [ ص: 458 ] أنس ، والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، وابن المبارك وأمثالهم ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، والقاسم بن سلام ، ومن كان على طريقة هؤلاء من العلماء ، وينبذ من سواهم ولا يناظر ولا يجادل ، ولا يخاصم ، وإذا لقي صاحب بدعة في طريق أخذ في غيره ، وإن حضر مجلسا هو فيه قام عنه ، هكذا أدبنا من مضى من سلفنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية